لفظ (القرية) في العرف المعاصر هو اللفظ المقابل للفظ (المدينة)، ولكل منهما دلالة تغاير الآخر قليلاً أو كثيراً، فإذا كان أولهما يشير إلى الفقر والتخلف من حيث الجملة، فإن الثاني يدل على الغنى والتحضر من حيث الجملة أيضاً. بيد أن لفظ (القرية) في القرآن الكريم له من الدلالة غير الدلالة المستعملة في عُرفنا المعاصر، نقف عليها بعد أن نستجلي معنى (القرية) في لغة العرب.
تذكر معاجم العربية أن لفظ (قري) يدل على جمع واجتماع، من ذلك (القرية) ، سميت قرية لاجتماع الناس فيها. وكما أن لفظ (القرية) هو اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، فهو أيضاً اسم للناس جميعاً، ويستعمل في كل واحد منهما. ويقولون: قريتُ الماء في المقراة: جمعته، وذلك الماء المجموع قري. وجمع (القرية): قرى. والمقراة: الجفنة (وعاء الطعام)، سميت لاجتماع الضيف عليها، أو لما جمُع فيها من طعام. وقرى الضيف يقريه: ضيَّفه.
ولفظ (القرية) ورد في القرآن الكريم في ستة وخمسين موضعاً، جاء في جميعها بصيغة الاسم، ولم يأتِ بصيغة الفعل. وجاء هذا الاسم في أكثر مواضعه بصيغة المفرد، نحو قوله تعالى: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} (النساء:75)، وجاء في مواضع أقل بصيغة الجمع، من ذلك قوله سبحانه: {ولتنذر أم القرى ومن حولها} (الأنعام:92).
ولفظ (القرية) ورد في القرآن الكريم على عدة معان، نسوقها على النحو التالي:
(القرية) ويراد بها مجتمع الناس في أي موضع، من ذلك قوله تعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة} (الإسراء:58)، قال مجاهد: كل قرية في الأرض سيصيبها بعض هذا. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها} (الحج:48).
(القرية) ويراد بها (مكة المكرمة)، من ذلك قوله تعالى: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة} (النحل:112). ونحو هذا قوله سبحانه: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك} (محمد:3). وقوله تعالى: {الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} (النساء:75)، فالمراد بـ {القرية} في هذه الآيات ونحوها مكة المكرمة.
(القرية) ويراد بها (مكة والطائف)، من ذلك قوله تعالى: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف:31)، فقد قال المشركون بالله من قريش لما جاءهم القرآن من عند الله: هذا سحر، فإن كان حقاً، فهلا نزل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين مكة أو الطائف. وليس في القرآن لفظ (القرية) على هذا المعنى غير هذه الآية.
(القرية) ويراد بها (أنطاكية)، وذلك قوله تعالى: {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون} (يس:13)، روى الطبري عن قتادة ، قال: ذُكر لنا أن عيسى ابن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية -مدينة بالروم، لعلها اليوم في تركيا- فكذبوهما.
(القرية) ويراد بها (بيت المقدس)، من ذلك قوله تعالى: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} (البقرة:58)، روى عن قتادة وغيره، قال: بيت المقدس. وعلى هذا قوله سبحانه: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية} (الأعراف:161)، قال الطبري: هي قرية بيت المقدس.
(القرية) ويراد بها (سدوم)، مدينة من مدائن قوم لوط، وذلك قوله تعالى: {إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء} (العنكبوت:34)، ذكر الطبري أن المراد بـ (القرية) هنا قرية (سدوم)، وهي من قرى فلسطين اليوم.
(القرية) ويراد بها (نينوى)، وذلك قوله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} (يونس:98)، قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن قوم يونس كانوا بـ (نينوى) أرض الموصل.
(القرية) ويراد بها (الأيلة)، من ذلك قوله تعالى: {حتى إذا أتيا أهل قرية} (الكهف:77)، روى الطبري عن ابن سيرين أنها الأيلة. ونحو ذلك قوله سبحانه: {واسألهم عن القرية} (الأعراف:163)، روى عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: هي قرية يقال لها: أيلة (تقع في أقصى جنوب فلسطين)، بين مدين والطور. وهذا قول في المراد بـ (القرية) في هذه الآية.
(القرية) ويراد بها (مصر)، من ذلك قوله تعالى: {واسأل القرية التي كنا فيها} (يوسف:82)، قال الطبري: هي مصر.
وعلى ضوء ما تقدم، يمكن القول: إن لفظ {القرية} أكثر ما ورد في القرآن الكريم على المكان الذي يجتمع فيه الناس، وهذا ما يدل عليه المعنى اللغوي أساساً، أما المعاني الأخرى التي حُمل عليها معنى {القرية} في القرآن، فقد أرشدت إليها آثار عن السلف، عينت المراد منها.