بعد أن أوضحنا أنواع النقد، وفصّلنا القول فيما يتفرّع عن كل نوع منه، نأتي إلى بيان مراتب النقد، ومذاهب النقاد في التعامل مع الرواة المقلِّين، ثم نختم بمظانّ تأثير تشدد الناقد أو تساهله.
مراتب النقد
الأولى: التشدد وأبرز من اشتهر به:
التشدد مرادف للتعنت، ويكون بنقل الراوي من رتبة يستحقها في التعديل إلى ما هو دونها، أو في التجريح إلى ما هو أسوأ منها وأشد، أي غمز الراوي بالغلطتين والثلاث وتليين حديثه بذلك، وأبرز من اشتهر بذلك من الأئمة: أبو حاتم الرازي، ويحيى بن سعيد القطان، والعقيلي وأبو الفتح الأزدي، وغيرهم.
ولا يطلق التشدد على إمام إلا إذا كان ذلك ديدناً وصفة ملازمة له، ولو في طائفة معينة من الرواة، وبهذا يعلم أن وصفهم الناقد بأنه متشدد ليس معناه تشدده في كل أحكامه؛ وإنما ذلك الوصف حاصل بالنظر إلى جملة أحكامه في الرواة أو الأحاديث؛ أي بالنظر إلى غالب أحواله في النقد.
وقد يطلق وصف الراوي أو الناقد بالتشدد ولا يراد منه أكثر من نفي التساهل عنه، فليتنبه لهذا الاحتمال.
الثانية: التساهل وأبرز من اشتهر به:
التساهل مضاد للتشدد، ويكون باختيار قواعد وأصول للنقد مبنية على حسن الظن، فيؤدي التفريع عليها إلى إنشاء أحكام ترفع الراوي أو السند أو الحديث عن الرتبة التي يستحقها بحسب القواعد المعتدلة إلى رتبة تكون أكثر قوة لحاله خلافاً لما يستحق، وينتج عن ذلك توثيق بعض الضعفاء أو المجاهيل، وأبرز من اشتهر بذلك من الأئمة: ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والعجلي، والبزار، وابن جرير الطبري، وغيرهم.
ولا يطلق التساهل على إمام إلا إذا كان ذلك ديدناً وصفة ملازمة له، ولو في طائفة معينة من الرواة، وبهذا يعلم أن وصفهم الناقد بأنه متساهل ليس معناه تساهله في كل أحكامه؛ وإنما ذلك الوصف حاصل بالنظر إلى جملة أحكامه في الرواة أو الأحاديث؛ أي بالنظر إلى غالب أحواله في النقد.
وأيضا فإن من تسرع أو وَهِم أو أثر فيه الغضب أو الرضا فوثق الضعيف، فإنه لا يسمى بسبب ذلك متساهلاً وإن تكرر ذلك منه، إلا إذا كثر ذلك كثرة دالة على ميله إلى توثيق أو تقوية الضعفاء أو دالة على استناده على قواعد متساهلة.
الثالثة: الاعتدال مع بعض التشدد:
الاعتدال هو التوازن في إطلاق أحكام الجرح أو التعديل، وأبرز من اشتهر بذلك من الأئمة: البخاري، ومسلم، ومالك بن أنس، ويحيى بن معين، وأبو زرعة الرازي، وعلي بن المديني، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، وقد وُصف هؤلاء الأئمة بالاعتدال مع بعض التشدد؛ نظرا لأن تشددهم كان أقل بكثير من اعتدالهم.
الرابعة: الاعتدال مع بعض التساهل:
الاعتدال هو التوازن في إطلاق أحكام الجرح أو التعديل، وأبرز من اشتهر بذلك - إلا أنهم كان لديهم تساهل في بعض الأحيان - من الأئمة: أحمد بن حنبل، وأبو داود، وابن عدي، والخطيب البغدادي وابن عبد البر وغيرهم.
ومن النقاد من يتساهل في طبقة دون غيرها، فمنهم من يتساهل في المتقدمين كالتابعين وأتباعهم، وهذا كثير وله سببه؛ فالكذب في التابعين قليل، والتثبت غالب والتقوى متوافرة في الجملة، والروايات قليلة، وملكة الحفظ غالبة على الناس، وشهوة التحديث ضعيفة.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الكلام في الرواة تجريحاً وتعديلاً قليل جداً، فرأى بعض النقاد أنه مضطر في نقدهم إلى الاعتماد على معاني متون أحاديثهم، وكونهم مستورين، ولم يطعن فيهم أو في رواياتهم أحد من المتقدمين، وكذلك قد يتشدد الناقد ويتساهل في طبقة واحدة أو طائفة واحدة من الرواة، كابن حزم، يتشدد على ضعفاء المدلسين ويتساهل مع ثقاتهم.
مذاهب النقاد في التعامل مع الرواة المقلِّين:
1- مذهب توثيق المجاهيل: حتى لو كانوا لا يعرفون عنهم شيئاً، وهو مذهب ابن حبان والعجلي وابن خزيمة والحاكم.
2- مذهب توثيق قليل الحديث: من ليس بالمشهور حتى لو لم يكن له إلا حديثٌ واحد، وهو مذهب ابن سعد وابن معين والنسائي والبزّار والطبري والدارقطني.
3- مذهب الجمهور: لا يوثقون أحداً حتى يطلعون على عدة أحاديث له تكون مستقيمة، وبذلك يجزمون بقوة حفظ هذا الراوي، وهو مذهب غالب علماء الجرح والتعديل وبخاصة علي بن المديني والبخاري وأبي حاتم الرازي.
4- مذهب التضييق في هذا والتشديد في ذلك: كما يفعل ذلك ابن حزم وابن القطان الفاسي حتى أنهم قد يجهّلون أناساً من الثقات أو أناساً لا بأس بهم.
مظان تأثير تشدد الناقد أو تساهله:
من ثبت من النقاد الثقات أنه متشدد أو متساهل في نقده، فليعلم أن تشدده أو تساهله لا دخل له في الأمور التالية:
الأمر الأول: الأحكام التي يرويها عن غيره، لأنه هنا ناقل لا ناقد.
الأمر الثاني: ما يذكره من تفسير لأحكامه أو أحكام الآخرين إذا كانت تلك الأحكام لا تحتمل وجوهاً من المعاني والتفاسير والتأويلات.
الأمر الثالث: ما يذكره من أدلة على صحة أحكامه أو أحكام غيره عنده.
الأمر الرابع: أحكامه التي يقولها من عند نفسه في غير مظان تشدده أو تساهله.
وإنما ينحصر أثر ذلك في أمرين:
الأول: نفس أحكامه التي يقولها من عند نفسه في مظان تشدده أو تساهله، لأنه وإن كان يقولها بناء على ما علمه أو بلغه من حال الرواة فإنها تحتمل احتمالاً قوياً أن تكون مصطبغة بذلك الوصف، مشربة إياه.
الثاني: ما يذكره من إيضاح وتفسير لأقوال العلماء في الرواة وأحكامهم عليهم، إذا كان ذلك الإيضاح أو التفسير مما يعتريه الاختلاف والاجتهاد ويدخل في أبواب الاحتمالات والظنون.
وقد يكون خاتمة المسك لما أوردناه، قول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: «ونحن لا ندّعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل، لكنهم أكثر الناس صواباً وأندرهم خطأً وأشدهم إنصافاً وأبعدهم عن التحامل، وإذا اتفقوا على تعديلٍ أو جرحٍ، فتمسك به واعضض عليه بناجذيك، ولا تتجاوزه فتندم، ومن شذ منهم فلا عِبْرة به، فخَلِّ عنك العَناء، وأعط القوس باريها، فوالله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر، ولئن خطب خاطبٌ من أهل البدع، فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة وبجاه السنة وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فنعوذ بالله من الخذلان».