تعددت أساليب القرآن الكريم في خطاب النفس البشرية، ما بين ترغيب وترهيب، وإنذار وتبشير، ووعد ووعيد. وكان التهديد من الأساليب التي اعتمدها القرآن في خطابه؛ وذلك أن من النفوس البشرية من لا تستجيب لنداء الحق إلا إذا خوطبت بخطاب فيه تهديد ووعيد.
والمتأمل في القرآن الكريم يجد أن أسلوب التهديد لم يأت بصيغة التهديد الصريحة فحسب، بل جاء في العديد من المواضع بطريق التلميح والتعريض، وبطرق أخرى نبينها فيما يلي:
التعبير بصيغة (افعل) وهي صيغة أمر، وليس المراد حقيقة الأمر بل التهديد، وهذا نحو قوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا} (النحل:55)، فصيغة الأمر {ليكفروا} و{فتمتعوا} ليس المراد منها الأمر بالكفر والتمتع بالحياة الدنيا، بل المراد حقيقة التهديد، وكأن المعنى: استمروا فيما أنتم عليه من الكفر والعصيان والتمتع بزخرف الحياة الدنيا، فسوف تعلمون يوم الحساب عاقبة هذا الكفر والتمتع. وهذا الأسلوب في صرف الأمر عن حقيقته كثير في القرآن الكريم، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {قل تمتع بكفرك قليلا} (الزمر:8).
ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة العلم، قال أبو حيان: وكثيراً ما يقع التهديد في القرآن بذكر (العلم)، والمثال على هذا قوله عز وجل: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} (البقرة:223)، فالأمر بـ (العلم) بأن لقاء الله آتٍ لا مفر منه مشعر بالتهديد. ومن هذا القبيل أيضاً، قوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بالمعتدين} (الأنعام:119).
ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة (أَفْعَل) والمراد المبالغة في التهديد والزجر، والمثال عليه قوله سبحانه: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} (البقرة:114)، ففي الآية تهديد عظيم لمن منع مساجد الله أن تقام فيها العبادة. ونحو هذا قوله تعالى: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} (البقرة:140). وهذا غير قليل في القرآن.
ومن صيغ التهديد الإملاء للمعرضين والإمداد لهم، والمثال عليه قوله سبحانه: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا} (الزخرف:83)، وهذا كما يقول الأب لولده: افعل ما يحلو لك، فسوف تعرف عاقبة ما تفعله. ونظير هذا قوله عز وجل: {فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} (الطور:45).
ومن صيغ التهديد سوق الجملة مساق الإخبار، نحو قوله سبحانه: {ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر} (القمر:51) فهذا الخبر مستعمل في التهديد بالإهلاك، وبأنه يفاجئهم قياساً على إهلاك الأمم السابقة. ونظيره قوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول} (المزمل:16)، وهذا خبر أيضاً، الغرض منه التهديد بأن يحلَّ بالمخاطبين لما عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما حلَّ بفرعون.
ومن صيغ التهديد الأمر بما هو خلاف مراد الله سبحانه، نحو قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف:29)، فقوله: {فليكفر} ليس أمراً بالكفر، بل سيق الكلام مساق التهديد والزجر من الكفر. ونظيره قوله عز وجل: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} (الإسراء:107).
ومن صيغ التهديد سوق الكلام مساق الاستفهام، والمثال عليه قوله عز وجل: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا} (يوسف:109)، فالكلام سيق مساق الاستفهام، غير أن المراد التهديد والوعيد لمن لا يسير في الأرض، وينظر في سنن الله في الخلق والكون. ونظير هذا قوله سبحانه: {ألم نهلك الأولين} (المرسلات:16). وهذا الأسلوب كثير في القرآن الكريم.
ومن صيغ التهديد التعبير بلفظ (الفراغ)، ومثاله قوله عز وجل: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} (الرحمن:31)، و(الفراغ) للشيء يُستعمل في التهديد كثيراً؛ كأنه فرغ عن كل شيء لأجله، فلم يبق له شغل غيره.
ومن صيغ التهديد سوق الكلام مساق القسم، نحو قوله تعالى: {لترون الجحيم} (التكاثر:6)، فالقسم هنا يفيد التهديد، وكأن المعنى: والله لتذوقون عذاب الجحيم.
ومن صيغ التهديد التعبير بأداة الزجر (كلا)، وهذا كثير في القرآن المكي، نحو قوله تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة} (القيامة:20)، فالمراد هنا التهديد، أي: سوف تعلمون عاقبة حبكم وتعلقكم بهذه الحياة الدنيا الفانية، وإعراضكم عن الدار الآخرة الباقية. ونظيره قوله عز وجل: {كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون} (التكاثر:3-4)، أي: سوف يعلمون عاقبة أمرهم؛ لأن سياق القول في التهديد والوعيد.
ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة المستقبل بالإخبار عن عاقبة المعرضين، مثاله قوله تعالى: {سأريكم دار الفاسقين} (الأعراف:145)، قال ابن كثير: أي: سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب. كما يقول القائل لمن يخاطبه: سأريك غداً إلام يصير إليه حال من خالف أمري، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره. ونظيره قوله سبحانه: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} (الشعراء:227).
ومن صيغ التهديد سوق الكلام مساق الأمر بطاعة الله سبحانه، مثال ذلك قوله تعالى: {وإياي فارهبون} (البقرة:40)، فالأمر هنا متضمن معنى التهديد والوعيد. ونحوه قوله سبحانه: {وإياي فاتقون} (البقرة:41). والمثال عليه في القرآن غير قليل.
ومن صيغ التهديد تكرار الكلام بلفظه، والقصد التهديد، مثاله قوله عز وجل: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} (البقرة:141)، قال القرطبي: كررها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي: إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم، فأنتم أحرى. ونظير هذا قوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما} (الرحمن:13)، فقد تكررت هذه الآية كثيراً في سورة الرحمن، بقصد التهديد لمن تنكر لنعم الله عليه وأفضاله.
ومن صيغ التهديد إخباره سبحانه بعدم غفلته عما يفعله عباده، والمثال عليه قوله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون} (البقرة:74)، فالمراد التهديد، وهو كقول الرجل لولده -وقد أنكر مسلكه في الحياة- لا يخفى عليَّ ما أنت عليه من الفساد، ولستُ غافلاً عن أمرك. ونحو هذا قوله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} (إبراهيم:42).
ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة (الإنذار)، من ذلك قوله تعالى: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} (إبراهيم:44)، فالإنذار في الآية متضمن التهديد والوعيد. ونحوه أيضاً قوله سبحانه: {وأنذرهم يوم الحسرة} (مريم:39).
ومن صيغ التهديد التعبير بلفظ الأمر ومعناه الخبر، والمراد التهديد والوعيد، مثاله قوله عز وجل: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا} (مريم:75)، فلفظ الآية أمر، والمعنى الإخبار، والقصد التهديد والوعيد، أي: إياكم أن ترتعوا في الغي والضلال، فإنه من يفعل ذلك فسوف يؤخره سبحانه ليوم تشخص فيه الأبصار.
ومن صيغ التهديد التعبير بما يفيد أن للمؤمنين أعمالهم وللكافرين أعمالهم، والغرض التهديد، كقوله تعالى: {فقل لي عملي ولكم عملكم} (الأنعام:41)، أي: إني عامل بما أُمرت به، وعملي مُوْدٍ بي إلى النور المبين، واعملوا عملكم فإنه مُوْدٍ بكم إلى الضلال المبين. والغرض من هذا التهديد والوعيد لمن لا يزال يتردد في قبول الحق المبين. ونظيره قوله سبحانه: {لكم دينكم ولي دين} (الكافرون:6).
ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة (الإعراض)، من ذلك قوله تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} (الأنعام:70). فالآية خطاب للمؤمنين بالإعراض عن الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، والمراد التهديد والوعيد لمن سلك هذا المسلك. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} (الأنعام:91).
ومن صيغ التهديد التعبير بلفظ (الرؤية)، مثاله قوله سبحانه: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} (الأنعام:27)، أي: لو رأيت حال الوقفين على النار لرأيت أمراً عظيماً، تشيب له الولدان، والغرض من هذا التعبير التهديد والوعيد. ومثاله أيضاً قوله سبحانه: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} (الأنعام:93). وهذا كثير.
ومن صيغ التهديد التعبير بصيغة النهي، من ذلك قوله سبحانه: {ولا تتخذوا آيات الله هزوا} (البقرة:231) فهذا نهي مستعمل في التهديد، والتهديد إذا ذُكر بعد ذكر التكاليف كان ذلك التهديد تهديداً على تركها. ونظيره قوله تعالى: {ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا} (النساء:89).
ومن صيغ التهديد الإخبار بألفاظ تحمل معنى التهديد والوعيد كلفظ (العلم)، و(الإحاطة)، و(القدرة)، و(الإبصار)، و(الكتابة)، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدل على أنه سبحانه مطلع على أفعال عباده لا تخفى عنه خافية، مثال ذلك قوله عز وجل: {والله يكتب ما يبيتون} (النساء:81)، بالمراد التهديد. ونحوه قوله سبحانه: {إن الله قوي عزيز} (المجادلة:21)، فالكلام سيق مساق التهديد والوعيد. وأكثر ما يكون هذا في ختام الآيات.
ومن صيغ التهديد الوصف بالإيمان بالله ومقتضياته، من ذلك قوله تعالى: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النساء:59)، وهذا يقتضي أن من لم يطع الله والرسول لا يكون مؤمناً، وهذا يقتضي أن يخرج المذنب عن الإيمان، لكنه محمول على التهديد. ونظيره قوله عز وجل في حق الزانية والزاني: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} (النور:2).
ومن صيغ التهديد الإخبار بأن المرجع إلى الله، مثاله قوله عز وجل: {واتقوا الله الذي إليه تحشرون} (المائدة:96)، المقصود منه التهديد؛ ليكون المرء مواظباً على الطاعة محترزاً عن المعصية. ونظيره قوله سبحانه: {الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} (النساء:87)، الكلام ورد على سبيل المخاطبة، والمقصود منه التهديد، كأنه قيل: لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله، وقد علمتم أنه سبحانه لا يهمل أمر رعيته، ولا يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي، فهلا علمتم أنه يقيم القيامة، ويحضر الخلائق، ويحاسب كلاً على عمله.
ومن صيغ التهديد إخباره سبحانه بعدم حبه لأمر، كقوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} (الأنعام:141)، فهذا الإخبار يفيد التهديد والوعيد لمن يسلك سلوك المسرفين. ومثله كذلك قوله تعالى: {إنه لا يحب المعتدين} (الأعراف:55).
ومن صيغ التهديد الإخبار بما يفيد أن مخالف ثوابت الدين معرض للعذاب الشديد، كقوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} (هود:14)، فالكلام جار مجرى التهديد، كأنه قيل: لما ثبت بالدليل كون محمد عليه السلام صادقاً في دعوى الرسالة، وعلمتم أنه لا إله إلا الله، فكونوا خائفين من قهره وعذابه، واتركوا الإصرار على الكفر. ونحوه قوله سبحانه: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} (القصص:50).
ومن صيغ التهديد ختم الآيات بعبارات تفيد أن من يخالف أوامر الله سبحانه، فإنه معرَّض للعذاب الشديد، كقوله تعالى مبيناً عاقبة المرتد عن دينه: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:217).
ومن صيغ التهديد استعمال صيغة التخيير، مثال ذلك قوله سبحانه: {فاصبروا أو لا تصبروا} (الطور:217)، ففي الآية قوة التهديد والوعيد.
ومن صيغ التهديد الإخبار بأن عقابه سبحانه أليم شديد، من ذلك قوله تعالى: {والكافرون لهم عذاب شديد} (الشورى:26).
ومن صيغ التهديد الإخبار بنعم الله على عباده؛ والغرض التهديد لمن لا يُقدِّر هذه النعم حق قدرها، من ذلك قوله تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا} (الملك:15)، فالآية واردة على سبيل التهديد، كأنه تعالى قال: أيها الكفار، اعلموا أني عالم بسركم وجهركم، فكونوا خائفين مني، محترزين من عقابي، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها، وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم، أنا الذي ذللتها لكم، وجعلتها سبباً لنفعكم، فامشوا في مناكبها، فإنني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض.
ومن صيغ التهديد الإخبار بسلب النعم التي أنعم الله بها على عباده، مثال ذلك قوله عز وجل: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم} (الأنعام:46)، فالكلام جار مجرى التهديد والتخويف، اختير فيه التهديد بانتزاع سمعهم وأبصارهم وسلب الإدراك من قلوبهم؛ لأنهم لم يشكروا نعمة هذه المواهب، بل عدموا الانتفاع بها.
ومن صيغ التهديد سوق الكلام مساق الشرط، كقوله سبحانه: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} (البقرة:228)، فالآية فيها معنى الشرط، وهو شُرْط أريد به التهديد دون التقييد.
ومن صيغ التهديد الإخبار بلفظ الغلبة والحشر، كقوله سبحانه: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} (آل عمران:12)، فالمراد بـ (الغلبة) و(الحشر) هنا التهديد.
ومن صيغ التهديد الإخبار بصيغة (التكثير)، نحو قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون} (الأعراف:4)، فالخبر مستعمل في التهديد للمشركين. ونحوه قوله سبحانه: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} (مريم:74). وهذا كثير في القرآن.
ومن صيغ التهديد سوق الكلام بأسلوب التعريض بالمخالفين السابقين، والمراد اللاحقين ومن سلك مسلكهم، والمثال على هذا قوله سبحانه: {أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون} (التوبة:69)، فيه تعريض بأن الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يَحِلَّ بهم ما حلَّ بأولئك، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم.
ومن صيغ التهديد التصريح بالتهديد لمن خالف أمر الله، من ذلك قوله عز وجل: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا} (الإسراء:85)، جاء بصريح التهديد على مسمع منهم، بأن كل قرية مثل قريتهم في الشرك لا يعدوها عذاب الاستئصال، وهو يأتي على القرية وأهلها، أو عذاب الانتقام بالقتل والذل والأسر والخوف والجوع.
أخيراً، من صيغ التهديد التذكير بالأمم السالفة، وما نزل بها من العقاب والعذاب، كقوله تعالى: {وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} (سبأ:45)، فالآية سيقت مساق التهديد بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذبت رسلها، وكيف عاقبهم الله على ذلك، وكانوا أشد قوة من قريش، وأعظم سطوة منهم.
وبهذا يتبين أن التهديد في القرآن ورد بصيغ متعددة وأساليب متنوعة كلها تدل على بلاغة هذا الكتاب وإعجازه للعالمين .
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
دراسات قرآنية