أولادنا هم فلذات أكبادنا، وأمانة في أعناقنا، وسيسألنا الله ـ عز وجل ـ إن قصَّرنا في تربيتهم، والناظر في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجد أنه مع كثرة أعبائه وشدة اشتغاله بأمور الدعوة والدولة قد أعطى للصغار نصيباً من وقته، وجانباً كبيراً من اهتمامه، والسيرة النبوية الشريفة مليئة بالمواقف التربوية مع الصغار، والتي تحتاج من الأمهات والآباء، والدعاة والمربين، وقفات للتأمل بقصد التأسي والاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تربية الصغار، قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا }(الأحزاب الآية:21) .
ومن هذه المواقف ما رواه سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أُتِيَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدح فشرب، وعن يمينه غلام هو أحدث (أصغر) القوم، والأشياخ عن يساره، قال: يا غلام أتأذن لي أن أُعْطِيَ الأشياخ؟، فقال: ما كنتُ لأُوثِرَ بنصيبي منك أحداً يا رسول الله، فأعطاه إيَّاه ) رواه البخاري .
هذا الغلام هو عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ، وقيل الفضل بن العباس ـ رضي الله عنه ـ، والصحيح أنه عبد الله، كما قال ابن حجر في فتح الباري: " وقوله: " ( وعن يمينه غلام ) هو الفضل بن عباس حكاه ابن بطال، وقيل أخوه عبد الله حكاه ابن التين وهو الصواب " .
وفي تصرف عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ دليل على فطنته، وقد أصبح حبر الأمة بعد ذلك، وكذلك فيه دلالة على عِلمه ـ رضي الله عنه ـ رغم صغره ببركة وفضل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ صغاراً وكباراً يرون هذه البركة بأعينهم، فكانوا يقتتلون على وضوئه، ويأخذوا من ريقه وعرقه، ويمسحوا أبدانهم بيده، ويحرصوا على ملامسته، وكل ذلك بمرأى منه وإقرار ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .
وقد استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ الغلام الصغير عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ بقوله: ( أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ ) لأنه كان عن يمينه، فهو في السنة النبوية أحق من غيره، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحب التيامن، يأخذ بيمينه، ويعطي بيمينه، ويحب التيمن في جميع أموره ) رواه النسائي .
وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري: " مشروعية تقديم مَنْ هو على يمين الشارب في الشرب وإن كان مفضولا بالنسبة إلى من كان على يسار الشارب، لفضل جهة اليمين على جهة اليسار، وهل هو على جهة الاستحباب أو أنه حق ثابت للجالس على اليمين؟، فقال القاضي عياض: إنه سنة، قال: وهذا مما لا خلاف فيه، وكذا قال النووي: إنها سنة واضحة " .
وقال ابن حجر: " مشروعية الأيمن فالأيمن في الشرب، وأنه من السنة .. ، وفيه أن الغلام لو تبرع وتنازل عن حقه جاز فعله " .
فائدة :
التيامن سنة نبوية، والأحاديث في ذلك كثيرة منها حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ) رواه البخاري، وقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (في شأنه كله) عام في تقديم اليمين في كل أمرٍ مستحسن .
قال ابن الملقن: " والضابط في ذلك: أن كل ما كان من باب التكريم والزينة كان باليمين، وما كان بخلافه فباليسار " .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُتِيَ بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي، وعن شماله أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي، وقال: الأيمن فالأيمن ) رواه البخاري .
قال النووي: " فيه بيان استحباب التيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام، وفيه أن الأيمن في الشراب ونحوه يقدم وإن كان صغيرا أو مفضولاً " .
ومن المعلوم كذلك أن من السُنَّة تقديم الكبير في وجوه الإكرام عامة، وقد وردت أحاديث صحيحة في تقديم الكبير في صلاة الجماعة، والتحدث إلى الناس، وفي الأخذ والعطاء عند التعامل، منها حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سقى قال: ابدؤوا بالكبير ) رواه أبو يعلى .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : (قَدِمَ وفد جهينة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقام غلام ليتكلم ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مه، فأين الكبير ؟! ) رواه الحاكم .
وعن سهل بن أبي حثمة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كَبِّر، كَبِّر، وهو أحدث القوم فسكت فتكلما ) رواه البخاري .
قال ابن حجر : " قوله: ( كَبِّر، كّبِّر )، أي: قدم الكبير السن " .
ولا تعارض بين تقديم الكبير وبين سنة التيامن، فحديث تقديم الشراب للأيمن وإن كان صغيراً أو أعربياً لا يخالف الحث على تقديم الأكبر، لأن الحق هنا غير متساوٍ فالأيمن أولى به لجهته، فبعضهم أولى به من بعض، فيُعْطَى كل ذي حقٍ حقه، والغلام كان أولى بالشراب من الأشياخ فقُدِّم له حقه .
قال النووي: " وأما تقديم الأفاضل والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف، ولهذا يقدم الأعلم والأقرأ على الأسَنِّ الشيب في الإمامة في الصلاة " .
وقال ابن عبد البر: " وفي هذا الحديث من الفقه أن من وجب له شيء من الأشياء لم يُدْفع عنه، ولم يتسور عليه فيه إلا بإذنه، صغيراً كان أو كبيراً، إذا كان ممن يجوز له إذنه، وليس هذا موضع: ( كبِّر، كبِّر )، لأن السِنَّ إنما يُراعَى عند استواء المعاني والحقوق، وكل ذي حق أولى بحقه أبداً، والمناولة على اليمين من الحقوق الواجبة في آداب المجالسة " .
وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستن وعنده رجلان، فأوحي إليه: أن أعط السواك الأكبر ) رواه أبو داود .
قال الشيخ الألباني: " قال ابن بطال: فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام، وقال: المهلب: هذا ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة حينئذ تقديم الأيمن، وهو صحيح " .
وجمع ابن حجر بقوله: " ويُجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساويين، إما بين يدي الكبير أو عن يساره كلهم، أو خلفه، أو حيث لا يكون فيهم، فتخص هذه الصورة من عموم تقديم الأيمن " .
إن المتأمل في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومواقفه وسُنته، يجد أنه أعطى الصغار جانبا كبيرا من اهتمامه، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم مربياً حكيما، ينصح ويربي، ومن مظاهر اهتمامه بهم تنشِئتهم على الثِّقة بِالنَّفْس، وعدم الانْتقاصِ مِنْ قَدْرِهِم، أَو إِهانتِهِم والسُّخْرِية منهم، وتأكيده على إعطائهم حقهم، ليشعرهم بقيمتهم، ويعودهم على الشجاعة في أدب، ويؤهلهم مستقبلا أن يعرفوا حقوقهم ..
فطُوبَى لِمَنْ وَعَى النَّهْج النَّبوِيَّ القائم علَى إِعطاء كل إنسان حقه وقِيمته، صغيراً كان أو كبيراً، فكل منهما ـ الصغير والكبير ـ له في سنته وهديه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حقه وقدْره، فهو القائل ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ليس مِنَّا منْ لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ) رواه الترمذي .