يعد الإمام الترمذي من أوائل علماء الحديث الذين عرفوا الحديث الحسن، كما أنه أكثر من استعماله، ويعد هذا المصطلح من أكثر المصطلحات التي اختلف في بيان حده العلماء قديماً وحديثاً، وقد أفرده بعض العلماء المعاصرين برسالة خاصة.
ولا يفهم تعريف الإمام الترمذي للحديث الحسن إلا من خلال عرضه على تطبيقاته العملية، حيث أن شرطه فيه ألا يكون الراوي متهماً بالكذب، وهذا يشمل أكثر من نوع أو أكثر من صفة، فيشمل الراوي المتروك، ويشمل بعض من وصفوا بكثرة الخطأ، وقد حسن الإمام الترمذي أحاديث مع وجود مخالفة في متنها، لما هو أقوى منها، ويميل الإمام الترمذي في دفع التعارض بين بعض الأحاديث للجمع بين مثل هذه الأحاديث ما دام الجمع ممكناً.
ويختلف معنى هذا المصطلح (حسن) عند المتأخرين عنه عند المتقدمين من المحدثين، ويكاد يتفق الجميع أن لفظة (حسن) استعملت من قبل علماء الحديث قديماً، فقد استعملها الإمام الشافعي، وابن المديني، والبخاري وغيرهم، وكان استعمالهم لها في غالبه على المعنى اللغوي، لا المعنى الاصطلاحي، فقد أطلقوا على الحديث الصحيح معنى الحسن، وعلى كل حديث مقبول غير مردود معنى الحسن، ومرادهم: الحسن الذي يقابله المنكر أو الباطل أو الموضوع كما قال السيوطي في تدريب الراوي، وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن حجر: "وقد وجد التعبير بالحسن في كلام من هو أقدم من الشافعي، لكن منهم من يريد بإطلاق ذلك المعنى الاصطلاحي، ومنهم من لا يريده".
ويفصّل صاحب الشذا الفياح معنى الحديث الحسن تحت عنوان (معرفة الحسن من الحديث) فيقول: روينا عن أبي سليمان الخطابي أنه قال: الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء، وروينا عن أبي عيسى الترمذي: الحسن أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذلك.
وقال بعض المتأخرين: الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل هو الحديث الحسن، ويصلح للعمل به، وكل هذا مستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن من الصحيح، وقد أمعنت النظر في ذلك والبحث جامعاً بين أطراف كلامهم فتنقح لي واتضح أن الحسن قسمان:
أحدهما: هو الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تحقق أهليته غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه، ومتهماً بالكذب في الحديث يتعمد الكذب، ولا سبب آخر مفسق، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر، أو أكثر حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله أو بما له شاهد، وهو ورود حديث آخر بنحوه فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً أو منكراً، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل.
والقسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، ولم يبلغ درجة رجال الصحيح، لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك برتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكرا ويعتبر في كل هذا سلامة الحديث عن الشذوذ والإنكار والعلة، وعلى هذا القسم الثاني يتنزل كلام الخطابي.
وأضاف: وهذا الذي ذكرته جامع لما تفرق في كلام من بلغنا كلامه في ذلك، وكأن الترمذي والخطابي ذكر كل واحد منهما أحد نوعي الحديث الحسن، واقتصر كل واحد منهما على ما رأى أنه يُشكل، معرضاً عما رأى أنه لا يشكل، أو أنه غفل عن البعض وذهل، هذا تأصيل ذلك..
قال زين الدين العراقي في ألفيته:
وَالحَسَنُ المَعْرُوْفُ مَخْرَجاً وَقَدْ اشْـتَهَرَتْ رِجَـــالُهُ بِذَاكَ حَــــدْ
حَمْدٌ وَقَالَ التّرمِذِيُّ مَا سَـلِمْ مِنَ الـذُوْذِ مَعَ رَاوٍ مَا اتُّهِـــمْ
بِكَذِبٍ وَلَمْ يَكُنْ فَـــرْداً وَرَدْ قُلْتُ وَقَدْ حَسَّـــنَ بَعْضَ مَا انفَرَدْ
وَقِيْلَ مَا ضَعْفٌ قَرِيْبٌ مُحْتَــمَلْ فِيْهِ وَمَا بِكُـــــلِّ ذَا حَدٌّ حَصَــلْ
وَقَالَ بَانَ لي بإمْعَانِ النَّظَرْ أنَّ لَهُ قِسْـــمَيْنِ كُـلٌّ قَدْ ذَكَـــرْ
قِسْماً، وَزَادَ كَــونَهُ مَا عُلِّلا وَلاَ بِنُكْرٍ أوْ شُــذُوْذٍ شُـــــــمِلاَ
وَالفُقَهَاءُ كلُّهُمْ يَســــتَعمِلُهْ والعُلَمَـاءُ الْجُلُّ مِنْهُمْ يَقْبَـــلُهْ
فقول الخطابي: (ما عُرف مخرجه) هو كقول الترمذي (يروى من غير وجه) وقول الخطابي (اشتهرت رجاله) يعني السلامة من الكذب، وهو كقول الترمذي: ولا يكون في إسناده من يتهم بالكذب.
قال العراقي في التقييد والإيضاح: اعترض بعضُ من اختصر كلام ابن الصلاح عليه أي - على ابن الصلاح - في حكاية هذا عن الترمذي، وهو الحافظ ابن كثير فقال: وهذا إن كان قد روي عن الترمذي أنه قاله، ففي أي كتاب قاله، وأين إسناده عنه، وإن كان فُهم من اصطلاحه في كتابه الجامع، فليس ذلك بصحيح، فإنه يقول في كثير من الأحاديث: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من هذا الوجه، وهذا إلانكار عجيب فإنه في آخر العلل التي في آخر الجامع وهى داخلة في سماعنا وسماع المنكر لذلك، وسماع الناس، نعم ليست في رواية كثير من المغاربة، فإنه وقعت لهم رواية المبارك ابن عبد الجبار الصيرفي، وليست في روايته عن أبى يعلى أحمد ابن عبد الواحد، وليست في رواية أبى يعلى عن أبى على السنجى، وليست في رواية أبى على السنجى عن أبى العباس المحبوبى، صاحب الترمذي، ولكنها في رواية عبد الجبار ابن محمد الجراحى عن المحبوبى، ثم اتصلت عنه بالسماع إلى زماننا بمصر والشام وغيرهما من البلاد الإسلامية، ولكن استشكل أبو الفتح اليعمرى كون هذا الحد الذي ذكره الترمذي اصطلاحاً عاماً لأهل الحديث فنورد لفظ الترمذي أولا: قال أبو عيسى وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن إنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويُروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن. فقيد الترمذي تفسير الحسن بما ذكره في كتابه الجامع، فلذلك قال أبو الفتح اليعمرى في شرح الترمذي: إنه لو قال قائل: إن هذا إنما اصطلح عليه الترمذي في كتابه هذا ولم ينقله اصطلاحاً عاماً كان له ذلك، فعلى هذا لا ينقل عن الترمذي حد الحديث الحسن بذلك مطلقاً في إلاصطلاح العام، والله أعلم.
فالإمام الترمذي يحترز من إطلاق الحسن على من رواه متهم بالكذب، ولا يكون شاذاً، ولم يحترز ممن دونه، وهو في دائرة الضعف، فهو عرف الحسن، ولكنه لم يبين أنه يحتج به أو لا يحتج به. ولذا، فقد يطلق الحفاظ لفظة (الحسن) على الحديث ويريدون استقامة متنه وحسنه، مع أنه مردود سنداً، وهذا موجود في كلام الأئمة الحفاظ المتقدمين.
وقد اختلف العلماء من أهل المصطلح من المتأخرين في مفهوم الحديث الحسن عند المتقدمين من المحدّثين، وأطالوا الكلام في هذا، وناقشوا وأسهبوا، ولا يتسع المجال لذكر كافة كلامهم فيه، وما يهمنا هنا هو أن نفهم مفهوم الحسن عند الترمذي في جامعه.
ومما هو معلوم أن لفظة (حسن) استعملها العلماء قبل الإمام الترمذي كالإمام الشافعي وابن المديني والبخاري ويعقوب بن شيبة وغيرهم، ولكنهم جميعاً استعملوها على المعنى اللغوي، لا على المعنى الاصطلاحي، فقد كان بعضهم يطلق على (الصحيح) (حسناً)، وعلى كل حديث مقبول غير مردود (حسناً)، ومرادهم الحسن الذي يقابله المنكر، أو الباطل، وفي هذا يقول الإمام الذهبي في الموقظة: ويلزم من ذلك أن يكون كل صحيح حسن، وعليه عبارات المتقدمين، فإنهم يقولون فيما صح: هذا حديث حسن.
ويعقب الإمام الزركشي في النكت على عمل الإمام الترمذي وشرطه في الحديث الحسن، فيقول: قال بعض المحققين: ولم يف الترمذي بهذا الشرط، وقد حكم بحسن أحاديث لم تجمع هذه الصفات، قلت: ومنه قوله: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) فأين هذا من قوله: (ويروى من غير وجه) إذا علمت ذلك فهذا الحد معترض بأمور: أحدها: أن الصحيح أيضاً شرطه ألا يكون شاذاً ولا يكون في رجاله متهم، إلا أن يفرق بينهما بأن الشرط في الصحيح تعديل الرواة وهنا عدم تفسيقهم وفيه نظر.
الثاني: أن روايته من غير وجه لا يشترط في الصحيح فكيف الحسن؟! فعلى هذا الأفراد الصحيحة ليست بحسنة عند الترمذي؛ إذ يشترط عنده في الحسن أن يروى من غير وجه كحديث: (الأعمال بالنيات) وحديث: (السفر قطعة من العذاب) وحديث: (نهى عن بيع الولاء وهبته)، لكن الظاهر أن الترمذي إنما يشترط في الحسن مجيئه من وجه آخر إذا لم يبلغ رتبة الصحيح، فإن بلغها لم يشترط ذلك، بدليل قوله في مواضع: (هذا حديث حسن صحيح غريب) فلما ارتفع إلى درجة الصحة أثبت له العدالة، باعتبار فرديته، والحاصل أن الذي يحتاج إلى مجيئه من غير وجه ما كان راويه في درجة المستور، وإن لم تثبت عدالته، وأكثر ما في الباب أن الترمذي عرّف بنوع منه لا بكل أنواعه، وأيضاً فيشكل على قوله في مواضع: (هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه) إلا أن يريد اللفظ دون اعتبار الشاهد للمعنى توفيقاً بين كلاميه.
نماذج تطبيقية للحديث (الحسن) عند الترمذي: قال الترمذي في العلل: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, عَنْ عَطَاءٍ, عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى, عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77]. قال: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ, وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِهِ.
ويقول الحافظ ابن حجر في كتابه النكت على كتاب ابن الصلاح تحت عنوان: أمثلة لما يحسنه الترمذي: ولنذكر لكل نوع من ذلك مثلاً من كلامه، يؤيد ما قلناه: فأما أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية المستور فكثير لا نحتاج إلى الإطالة بها، وإنما نذكر أمثلة لما زدناه على ما عند المصنف رحمه الله: فمن أمثلة ما وصف بالحسن وهو من رواية الضعيف السيئ الحفظ ما رواه من طريق شعبة عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: إن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟) قالت: نعم. قال: فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال: وفي الباب عن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وأبي حدرد، رضي الله عنهم، وذكر جماعة غيرهم. وعاصم بن عبيدالله ضعفه الجمهور ووصفوه بسوء الحفظ، وعاب ابن عيينة على شعبة الرواية عنه. وقد حسن الترمذي حديثه هذا لمجيئه من غير وجه كما شرط، والله أعلم.
ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية الضعيف الموصوف بالغلط والخطأ: ما أخرجه من طريق عيسى بن يونس، عن مجالد، عن أبي الوداك, عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان عندنا خمر ليتيم, فلمّا نزلت المائدة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنه ليتيم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهريقوه) قال: هذا حديث حسن، قلت (الحافظ ابن حجر): ومجالد ضعفه جماعة ووصفوه بالغلط والخطأ، وإنما وصفه بالحسن لمجيئه من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس وغيره رضي الله عنهم.
وأشد من هذا ما رواه من طريق الأعمش عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه في الأمر بقتل الكلاب وغير ذلك. قال: هذا حديث حسن، قلت (الحافظ ابن حجر) في النكت: وإسماعيل اتفقوا على تضعيفه ووصفه بالغلط وكثرة الخطأ، لكنه عضده بأن قال: روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن مثله، يعني لمتابعة إسماعيل بن مسلم عن الحسن.
وهكذا نخلص إلى أن إطلاق الإمام الترمذي مصطلح (حسن) في علله الكبير يختلف عما هو عليه في جامعه، ففي العلل يستعمله على المعنى اللغوي، أي على ما هو معروف عند العلماء من قبله، وأما في جامعه فإنه خصه لنفسه، فهو يطلقه ويريد به الحسن لغيره، وهو الحديث الضعيف، الذي يتقوى بغيره، وأن راويه هو من دون مرتبة الصدوق، كما شرطه على نفسه في العلل. ومنها: أن الترمذي رحمه الله نص في مواضع كثيرة على ما يدل على ضعف الحديث، كأن يعله بعلة تضعفه، أو ينص على ترجيح غيره عليه، فالترمذي يعقب في بعض المواضع بعد قوله: (حسن) بقوله: (ليس إسناده بمتصل)، أو (ليس إسناده بذاك القائم)، وقد يقول: (ليس إسناده بذاك). وقد يجمع مع الحديث الحسن لفظة (حسن غريب) أو (غريب حسن) ويعني: أن متن الحديث سليم من الشذوذ والنكارة والغرابة، لكن في إسناده شيء من الغرابة أو النكارة أو الإشكال، وقد تعل غرابة السند الحديث وترده.