كثيرة هي النصوص التي وردت لحماية جناب التوحيد، وصيانة لمقامه، وقد سدت الشريعة كل باب يفضي إلى خدش أصله أو كماله، ومن ذلك تحريم التصاوير والتماثيل، فقد كانت أول وسيلة أضرت بالتوحيد، وأفضت إلى الشرك بالله تعالى، وقد حصل خلاف بين أهل العلم في حقيقة التصاوير المحرمة، بناء على تعارض في ظواهر الأحاديث، وهاك بيان وجه التعارض، ووجوه الجمع بينها:
في الصحيحين حديث عائشة -في إحدى روايات الشيخين- أنها اشترت نمرقة (وسادة) فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية فقالت: يا رسول الله: أتوب إلى الله وإلى رسوله. ماذا أذنبت؟ فقال: "ما بال هذه النمرقة؟" فقالت: اشتريتها لك تقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم". ثم قال: "إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة".
فهذا الحديث يدل على حرمة الصور عموما، وحتى لو كانت مرقومة على ثوب غير مجسمة، ولكن ورد في حديث آخر استثناء الصورة المرقومة على ثوب.
وفي الصحيحين عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصورة قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال إلا رقما في ثوب، وفي حديث عائشة في صحيح مسلم أيضا ما يدل على أن كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للتصاوير التي كانت على الثوب؛ لأجل انشغاله به في الصلاة، أو أنه كرهه لأنه مظهر من مظاهر أهل الترف، ويدل لذلك ما ورد في الصحيح: قال فأتيت عائشة فقلت إن هذا يخبرني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال « لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل ». فهل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر ذلك فقالت: لا، ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل رأيته خرج في غزاته فأخذت نَمَطاً (نوع من البسط رقيق كالقطيفة) فسترته على الباب فلما قدم فرأى النَّمَط عرفت الكراهية في وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه وقال: "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين"، قالت: فقطعنا منه وسادتين، وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك على.
وما ورد في الصحيح أيضا عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله فقال لى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا»، قال الحافظ: "وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة في النمرقة، فهذا يدل على أنه أقره وصلى وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من رؤيته لصورته حالة الصلاة ولم يتعرض لخصوص كونها صورة".
قال القرطبي: "يجمع بينها بأن يحمل حديث عائشة على الكراهة، وحديث أبي طلحة على مطلق الجواز، وهو لا ينافي الكراهة" واستحسنه الحافظ ابن حجر.
قال الطحاوي من أئمة الحنفية: "إنما نهى الشارع أولا عن الصور كلها، وإن كانت رقما؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بعبادة الصور، فنهى عن ذلك جلة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك أباح ما كان رقما في ثوب، للضرورة إلى اتخاذ الثياب، وأباح ما يمتهن لأنه يأمن على الجاهل تعظيم ما يمتهن، وبقي النهي فيما لا يمتهن".