شرع الله من الوسائل ما بها تحفظ الحقوق، وتصان الحرمات والأعراض، كالشهادة وسائر وسائل التوثيق، واشترط في الشاهد أن يكون عدلاً؛ حتى نطمئن في قبول خبره، وسلامة شهادته من أسباب الطعن، كالتساهل والحرص على أداء الشهادة قبل طلبها منه؛ لأن ذلك علامة على تسرعه، وقد ورد حديث يذم ذلك، وحديث يؤيده، فما هو وجه الجمع بين الحديثين؟
الحديث الوارد في ذم الشهادة قبل الاستشهاد:
في "الصحيحين" عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتى القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم). والله أعلم أذكر الثالث أم لا، قال: (ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن).
توجيه الحديث:
يحتمل أن تكون هذه الشهادة المذمومة قبل الاستشهاد في الحدود، ورفع الشاهد ذلك من قِبَل نفسه إلى الإمام؛ إذ ليس فيه حق لمسلم، وإنما فيه حق لله تعالى، وقد أمر الله تعالى بستر المسلم عورة أخيه، وألا ينتهك حرمته، وعليه فيحمل هذا الحديث على ذم أداء الشهادة قبل الاستشهاد في حق من حقوق الله تعالى.
الحديث الوارد في مدح الشهادة قبل طلبها:
جاء في "صحيح مسلم" عن زيد بن خالد -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل ان يسألها".
توجيه الحديث:
قال القاضي عياض: يعني به الشهادة التي يجب أداؤها وإن لم يُسْاَلَها؛ كشهادة بحق لم يحضر مستحقُّه، أو بشيء يخاف ضياعه، أو فوته، أو بطلاق، أو عتق على من أقام على تصرُّفه من الاستمتاع بالزوجة ، واستخدام العبد، إلى غير ذلك، وهو ما يسميه النووي " شهادة الحسبة، وذلك في غير حقوق الآدميين المختصة بهم"، فيجب على من تحمَّل شيئًا من ذلك أداء تلك الشهادة، ولا يتوقف أداؤها على أن تُسْأَلَ منه، فيضيع الحق، وقد قال تعالى : {وأقيموا الشهادة لله} (الطلاق:2).
قال النووي في الجمع بين هذين الحديثين: " وليس في هذا الحديث مناقضة للحديث الآخر في ذم من يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد في قوله صلى الله عليه وسلم: {يشهدون ولا يستشهدون} وقد تأول العلماء هذا تأويلات: أصحها: أنه محمول على من معه شهادة لآدمي عالم بها، فيأتي فيشهد بها قبل أن تطلب منه. والثاني: أنه محمول على شاهد الزور، فيشهد بما لا أصل له ولم يستشهد، ويدل عليه حديث عمر بن الخطاب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يفشو الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد".
قال الحافظ ابن حجر: "ويعارض حديث عمران ما رواه مسلم من حديث زيد بن خالد مرفوعاً (ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) واختلف العلماء في ترجيحهما، فجنح ابن عبد البر إلى ترجيح حديث زيد بن خالد؛ لكونه من رواية أهل المدينة، فقدمه على رواية أهل العراق، وبالغ فزعم أن حديث عمران هذا لا أصل له، وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران؛ لاتفاق صاحبي "الصحيح" عليه، وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد بن خالد. وذهب آخرون إلى الجمع بينهما، فأجابوا بأجوبة أحدها: أن المراد بحديث زيد من عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم بها صاحبها، فيأتي إليه فيخبره بها أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة، فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدث عنهم فيعلمهم بذلك، وهذا أحسن الأجوبة".
ومفاد هذا الجواب: جواز التقدم بأداء الشهادة قبل طلبها في حقٍّ يُخاف فواته؛ لعدم علم المشهود له بوجود من يشهد له، ولو لم يبادر بالشهادة لترتب على ذلك ضياع الحقوق، ويبقى الأصل في الشهادة منع الإدلاء بها قبل طلبها. وبه يُعلم أنه لا تعارض بين الحديثن، وإنما كل واحد منهما وارد على غير مورد الآخر.