من المزايدات التي حاول بعض المستشرقين ومن معهم من الطاعنين في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعاء مناقضة بعض الأحاديث لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكرون في هذا السياق بعض الروايات الثابتة، التي تذكر لعن النبي صلى الله عليه وسلم لأشخاص بأعيانهم، مقابل أحاديث أخر ثابتة أيضاً تنفي اللعن والسب عنه صلى الله عليه وسلم، وتخبر أنه عليه الصلاة والسلام لم يُبعث لعاناً، ولا فاحشاً. نذكر الأحاديث أولاً، ثم ننظر وجه الجمع والتوفيق بينها.
في "صحيح مسلم" عن أبى هريرة قال: قيل يا رسول الله! ادع على المشركين، قال: (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة). وفيه أيضاً عن أبى الدرداء، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة). وفيه أيضاً عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً).
ففي هذه الأحاديث ينفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه أن يكون لعَّاناً، بل ويجعل اللعن يتنافى مع مقام النبوة ورتبة الشهادة والصديقية.
بالمقابل، فقد ترجم الإمام مسلم في "صحيحه" باباً تحت عنوان: من لعَنَه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو سبَّه أو دعا عليه، وليس هو أهلاً لذلك كان له زكاة وأجراً ورحمة، وروى في ذلك عن عائشة رضي الله عنها قولها: دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان، فكلماه بشيء لا أدرى ما هو، فأغضباه، فلعنهما وسبهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله! من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان، قال: (وما ذاك). قالت: قلت: لعنتَهما وسببتَهما، قال: (أوما علمت ما شارطت عليه ربى؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته، أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا).
وقبل الجواب على ظاهر حديث عائشة ينبغي أن لا يسارع المسلم إلى الحكم بظواهر الأحاديث، وينقض بها ما تقرر لديه من طيب خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعفة لسانه عن السب والشتم، أو يبادر إلى إنكار الحديث الوارد في لعن الرجلين، بل عليه أن ينظر في توجيهات أهل العلم للظواهر المتعارضة، فيظن بكلام رسول الله أحسن الظنون وأكملها، ويحمل كلام المعصوم على أشرف المحامل وأحسنها.
والجواب عن حديث عائشة من وجوه:
أولاً: أن النفي في الأحاديث النافية لحصول اللعن منه عليه الصلاة والسلام محمولة فيما إذا كان اللعن والسب منه عليه الصلاة والسلام على سبيل الكثرة والدوام، ويظهر هذا من صيغة المبالغة التي ورد بها الحديث "لعَّان"، ولا ينفي حصول اللعن منه على وجه الندرة لمن يستحق ذلك كما في هذا الحديث.
ثانياً: أن الرجلين أغضبا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لانتهاكهما حرمات الله، فاستحقا بذلك لعنه وغضبه عليهما، وشأنه -كما تقرر- أنه لا يغضب لنفسه، وإنما لحرمات الله إذا انتهكت.
ثالثا: أن اللعن حصل منه على سبيل العادة التي جرت بها ألسنة العرب آنذاك مع عدم إرادة حقيقتها كقوله في أحاديث عدة: (تربت يمينك) متفق عليه، و(عقرى حلقى) متفق عليه، وقوله كما في مسند البزار، : (لا كبرت سنك) وفي حديث معاوية في صحيح مسلم: (لا أشبع الله بطنك)، ونحو ذلك مما لا يقصد حقيقة ظاهره، وقد شارط النبي -عليه الصلاة والسلام- ربه أن يجعلها رحمة ومغفرة على من وقع له ذلك ولا يستحقها فقال: (اللهم إنما أنا بشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة).
رابعاً: أن اللعن على من يستحقه قد وقع على ألسنة الأنبياء من قبله كما في قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) المائدة:78.
وهذا لا يكون إلا للأنبياء ممن أطلعهم الله على من يستحق اللعن بوحي يوحيه الله إليهم، وأما من سواهم فلا يجوز لهم لعن المعين من الناس، وإنما اللعن المطلق الذي وردت به النصوص، كلعن القاتل، وشارب الخمر، وآكل الربا على وجه العموم.