تزداد أهمية كل علم بمدى نفعه، وبمقدار احتياج الناس له، ومن هنا كان علم علل الحديث من أشرف العلوم، لأنه أكثرها نفعاً، فهو نوعٌ من أجلِّ أنواع علوم الحديث، وفنٌّ من أهم فنونه، فعلماء الحديث اهتموا بالحديث النبوي دراية ورواية، واهتموا ببيان علل الأحاديث؛ لأنه بمعرفتها يُعرف كلامُ النبي صلى الله عليه وسلم من غيره، ويُعرف صحيح الحديث من ضعيفه، وصوابه من خطئه، ولعل ابن المبارك خير من أجمل القول في هذه الحقيقة، حيث قال: هذه الأحاديث الموضوعة، فقال: تعيش لها الجهابذة.
وتزداد أهمية علم العلل بأنه من أشد العلوم غموضاً، فلا يدركه إلا من رُزق سعةَ الرواية، وكان حاد الذهن، ثاقب الفهم، دقيق النظر، واسع المران، قال الحافظ ابن حجر: "المعلل من أغمض أنواع الحديث، وأدقها مسلكاً، ولا يقوم بها إلا من رزقه الله تعالى فهماً ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، لهذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن، كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والدارقطني، وغيرهم. فعلم العلل علمٌ عسيرٌ، لا يلج بحره، ولا يجيد فيه إلا الجهابذة من العلماء، وهو من أدق علوم الحديث وأشرفها، وميدانه ثقات الرواة ومروياتهم، وما يعتري ذلك من وهم، أو اختلاف.
و(العلة) كما عرفها الحاكم هي: علمٌ برأسه غير الصحيح والسقيم، والجرح والتعديل، قال: وإنما يعلل الحديث من أوجه، ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقطٌ واه، وعلل الحديث تكثر في أحاديث الثقات، بأن يحدثوا بحديثٍ له علةٌ، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديثُ معلولاً. والعلة كما عرفها العلماء سببٌ خفيٌّ يقدح في صحة الحديث، فيصبح الحديث معلولاً بعد أن كان ظاهره السلامة، يقول ابن مهدي: لأن أعرف علةَ حديثٍ أحبّ إليَّ من أن أكتب عشرين حديثاً.
وقال ابن الصلاح: الحديث المعلل هو ما اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منها، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر. وقال العراقي: "العلة عبارة عن أسباب خفية طرأت على الحديث، فأثرت فيه، أي: قدحت في صحته". وقال النووي: "هي عبارة عن سبب غامض قادح مع أن الظاهر السلامة منه". أما البقاعي فقد نقل في نكته عن العراقي كلاماً جاء فيه: "المعلل: خبر ظاهره السلامة، اطلع فيه بعد التفتيش على قادح".
ومجال علم العلل أوسع من مجال الجرح والتعديل، كما ذكر الحاكم؛ لأن الأصل في أحاديث الثقات الاحتجاج بها، والالتزام بقبولها، وما يدخل عن طريق الثقات لا يدخل عن طريق الضعفاء والمجروحين، ومما يدل على سعة هذا العلم أن معظم علوم الحديث تدخل فيه، فقد يعلل الحديث بالانقطاع، والإرسال، والإعضال، والإدراج، والقلب، والاضطراب، وغيره. والذي يميز علم العلل عن كل هذه الأصناف هو خفاء هذه العلل، فقد يقع الإرسال أو الانقطاع في حديث الضعفاء، فيكون ظاهراً معروفاً، أما إذا وقع في أحاديث الثقات، فيصعب تمييزه والحكم عليه.
أهم أسباب العلة
الأول: السبب العام، وهو الذي يقف وراء الكثير من هذه العلل، وهو الضعف البشري الذي لا يسلم منه مخلوق، ولا عصمة إلا لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وما وراء ذلك يصيب ويخطئ، ويتذكر وينسى، على ما بينهم من تفاوت في ذلك، بين مكثر ومقلّ.
الثاني: ما يتصف به بعض الرواة من خفة الضبط، وكثرة الوهم، مع بقاء عدالتهم.
الثالث: الاختلاط، وهو آفة عقلية تورث فساداً في الإدراك، تصيب الإنسان في آخر عمره، أو تعرض له بسبب حادث ما، والكشف عنه مهمة عسيرة شاقة.
الرابع: خفة الضبط لأسباب عارضة، تؤثر في ضبط الراوي دون أن تؤثر في إدراكه، مثل ضياع كتبه، أو احتراقها، أو ابتعاده عنها، ومن هذه الأسباب أيضاً: الانشغال عن العلم بتولي القضاء، أو فقد البصر.
الخامس: قصر الصحبة للشيخ، وقلة الممارسة لحديثه، ومثلوا لهذا بأصحاب الزهري، وأنهم خمس طبقات؛ طبقة جمعت الحفظ والإتقان وطول الصحبة للزهري، وطبقة ثانية وهم أهل حفظ وإتقان، ولكن لم تطل صحبتهم للزهري، وإنما صحبوه مدة يسيرة، وثالثة لازموا الزهري وصحبوه، لكن تُكِلم في حفظهم، وطبقة رابعة رووا عن الزهري من غير ملازمة ولا طول صحبة، وخامسة وهم قوم من المتروكين والمجهولين.
السادس: رواية الحديث بالمعنى أو اختصاره.
السابع: تدليس الثقات، فقد يدرك النقاد هذا التدليس، فيكشفوا ما فيه من انقطاع، أو روايته عن ضعيف غير اسمه أو كنيته، أو أن يسمي شيخه أو يصفه بغير ما هو معروف به.
الثامن: الرواية عن المجروحين والضعفاء، وفي هذا يقول ابن الصلاح: "قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث، المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل؛ ولذلك تجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ ونحو ذلك من أنواع الجرح".
وسائل الكشف عن العلة
من أهم طرق الكشف عن العلل: معرفة المدارس الحديثية، نشأتها ورجالها، ومذاهبها العقدية، والفقهية، وأثرها وتأثيرها، وما تميزت به على غيرها، ومن دار عليهم الإسناد، وأوثق الناس فيه، وتمييز أصح الأسانيد وأضعفها، ومعرفة أبواب الحديث، قال ابن المديني: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه"، ومعرفة المتشابه من الأسماء والكنى والألقاب، ومعرفة مواطن الرواة، وهو من أصعب العلوم، وفيه يقول الحاكم: "وهو علم قد زلق فيه جماعة من كبار العلماء بما يشتبه عليهم فيه". ومعرفة الوفيات والولادات، قال حفص بن غياث: "إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين"، ومعرفة من أرسل ومن دلس، ومن اختلط، ومعرفة أهل البدع والأهواء.
و(العلة) أحياناً تكون في الإسناد، وأحياناً في المتن، فإذا وقعت العلة في الإسناد: فإما أن تقدح في السند فحسب، أو فيه وفي المتن، أو لا تقدح مطلقاً، وهكذا إذا وقعت العلة في المتن فعلى هذا يكون للعلة خمسة أقسام: تقع العلة في الإسناد، ولا تقدح مطلقاً. وتقع في الإسناد، وتقدح فيه دون المتن، وتقع في الإسناد، وتقدح فيه وفي المتن معاً. وتقع في المتن، ولا تقدح فيه ولا في الإسناد، وتقع في المتن، وتقدح فيه دون الإسناد.
أنواع العلل
ذكر العلماء عشرة أنواع من العلل، وضربوا على ذلك الأمثلة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، درسوها، وبينوا ما فيها من العلل، نكتفي هنا بذكر هذه الأنواع، وتفصيل القول فيها يعرف في مظانه من كتب مصطلح الحديث، وهذه الأنواع هي:
أولاً: أن يكون السند ظاهره الصحة وفيه من لا يُعرف بين أهل الحديث بالسماع عمن روي عنه.
ثانيا: أن يكون الحديث مرسلاً من وجه رواه الثقات والحفاظ، ويسند في وجه ظاهره الصحة.
ثالثاً: أن يكون الحديث محفوظاً عن صحابي، ويروي عن غيره لاختلاف بلاد روايته.
رابعاً: أن يكون الحديث محفوظاً، ويروي عن تابعي، يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحبته.
خامساً: أن يكون الحديث مروي بالعنعنة، وسقط منه رجل دلّ عليه طريق أخر محفوظ.
سادساً: الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله.
سابعاً: أن يختلف على رجل بالإسناد وغيره، ويكون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد.
ثامناً: أن يكون الراوي عن شخص أدركه وسمع منه، لكنه لم يسمع منه أحاديث معينة، فإذا رواها بلا واسطة، فعلتها أنه لم يسمعها منه.
تاسعاً: أن تكون ثمّ طريق معروفة، ويروي أحد رجالها حديثاً من غير تلك الطريق، فيقع الراوي عنه في الوهم، فيرويه من الطريق المعروفة.
عاشراً: أن يروي الحديث مرفوعاً من وجه موقوفاً من وجه.
ذكر ذلك الحافظ الحاكم، وابن رجب، وغيرهما، وقال الحاكم عقب ذلك: "فقد ذكرنا علل الحديث على عشرة أجناسٍ، وبقيت أجناسٌ لم نذكرها، وإنما جعلتها مثالاً لأحاديثَ كثيرةٍ معلولةٍ، ليهتدي إليها المتبحّر في هذا العلم، فإن معرفة عِلل الحديث من أجلِّ هذه العلوم".