يعرف الفِكْرُ على أنه تعبيرٌ عن فِعْلٍ يقومُ به الإنسانُ، والتفكيرُ هو عمليةُ إِعمالِ العقلِ في المعلوم للوصَول إلى معرفة مجهولٍ، وأصله الفعل الثلاثي (فَكَرَ) ومعناه أعْمَلَ العقْلَ، أي: مارس نشاطاً ذهنياً، فهو مُفكِّرٌ، وقد وردت مادة الفكر في القرآن الكريم في غير ما آية، منها قوله تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) (المدثر: 18) وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 219). وكلمة التفَكُّر تعني الوعي، والمتابعة، والمعاودة. يقول العلامة ابن عاشور في تفسيره: والتفكُّر: تكَلُّف الفِكرةِ، وهو معالجة الفكر ومعاودة التدبر في دلالة الأدلة على الحقائق. وقد ورد معنى الفِكْرِ والتفَكُّر في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، بصيغة الفعل وبألفاظ أخرى مثل: التدبّر والاعتبار، والعقل، والنظر، نكتفي بقوله سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: ٨٢). وتدبَّرْت الشيء؛ تفكَّرت في عاقبته وتأمَّلْتَه، ثم استعمل في كل تأمل، كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته، وقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24) والتدبر: هو النظر في أدبار الأمور وعواقبها.
والتفكر السليم له عدة عناصر نميزه بها وهي عملية بذل الجهد العقلي، والطريقة التي يتم فيها بذل ذلك الجهد، وموضوع التفكر، والهدف المتحقق منه. ولا شك أن المهم هو نتيجة التفكر، وما ينطوي عليه أخذ العبرة والفائدة، يؤكد الإمام الغزالي أنَّ الفكر هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها، ويربط بينه وبين ثمرته فيقول: (وأما ثمرة الفكر: فهي العلوم والأحوال والأعمال، ولكن ثمرته الخاصة العلم لا غير، نعم إذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب، وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح، فالعمل تابع الحال، والحال تابع العلم، والعلم تابع الفكر، فالفكر إذاً هو المبدأ والمفتاح للخيرات كله، وهذا هو الذي يكشف لك فضيلة التفكر، وأنه خير من الذكر والتذكر، لأن الفكر ذكر وزيادة... فإذاً التفَكُّر أفضل من جملة الأعمال).
وتتنوع الأفكار من حيث جودتها وفائدتها، وكما نعلم فإن للإنسان قدرة على تتبع ما يخطر له من أفكار، فينتقي منها ما يفيد، ويصرف عن خاطره ما يضر. وفي هذا المعنى يقول العلامة ابن القيم: (فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحَب الذي يوضع في الرحا، ولا تبقى الرحا معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها. فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه).
والتربية التي يجب أن تعد المعلم والمتعلم للمستقبل هي تلك التي تمكنه من التكيف وتوقع ما قد يحدث وكيفية التعامل معه، والتخطيط له، والتأثر فيه، وأن يكون عنده طريقة في التفكير مختلفة عما ألفه، وقد يستنبط البدائل المناسبة على الدوام، ويبتكر سبل التعامل مع المستقبل، وأن يكون قادراً على التعلم والمستمر، وتتبع التقدم العلمي والتكنولوجي.
أما عن علاقة الفكر بالتربية (الفكر التربوي) فقد شاع استعمال هذا المصطلح ليدل على العطاء العقلي على مستوى الفرد والأمة، وقد انتشر مصطلح (الفكر الإسلامي) انتشارا واسعا في القرن الماضي، لتمييز ما يريده المفكرون المسلمون عن غيرهم، ولم يكن هذا المصطلح معروفاً في التراث الإسلامي، رغم أن مفهوم الفكر والتفكر جاء ذكرهما في القرآن الكريم كما سبق بيانه، وقد عُرف في تاريخنا الإسلامي نماذج من العطاء الفكري في كافة الميادين، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى، ونكتفي هنا بذكر الإمام الفقيه القابسي الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكتب كتابه (الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين) في الفكر التربوي، وكذلك الإمام الماوردي الذي عاش في القرن الخامس الهجري وكتب في السياسة الشرعية والفكر السياسي والتربوي، ويعد كتابه أدب الدنيا والدين من أروع ما كتب في مجال التربية والأخلاق، وكذلك الإمام الغزالي في كتابه منهاج المتعلم، وكتابه إحياء علوم الدين، وأيها الولد، وكذلك الفقيه الزرنوجي الذي عاش في القرن السادس الهجري وكتابه (تعليم المتعلم طرق التعلم) في الفكر التربوي، ولا ننسى العلامة ابن خلدون الذي عاش في القرن الثامن الهجري وكتب في الفكر الاجتماعي والعمران البشري. وغيرهم من العلماء الذين يصعب حصرهم في مثل هذا المقال.
ومما لا شك فيه أن الفكر التربوي الإسلامي في العصر الحديث شأنه شأن الفكر على وجه العموم، لا يبدأ من نقطة الصفر، وإنما هو وليد مراحل سابقة، مما يجعل من المحتم على أي باحث في أي فترة من فتراته أن يقف وقفة أمام الميراث التربوي السابق، سعياً وراء تتبع خيوطه العامة، وهو ليس بالأمر السهل، وتزداد صعوبته حين يراد أن يكتب على شكل مقال أو بحث في عدة صفحات، ومن هنا فليس من السهل أن نتحدث عن الفكر التربوي العربي أو الإسلامي في صورة سماته الخاصة، وذلك لأن هذا التراث يمتد عبر ثلاثة عشر قرناً من الزمن، ويشمل كماً كبيراً من الأمصار والبلدان، مما يجعل متنوعاً إلى درجة يصعب معها محاولة الحصر أو التقسيم.
ورغم كل هذا أقول: ألف عدد كبير من العلماء في موضوع التربية والفكر التربوي، وكتبوا في مبادئ التعلم وأهمية التعليم، وضرورة إنشاء المؤسسات التعليمية، وتكشف النظرة المتفحصة لهذا التراث التربوي جوانب مهمة ومختلفة حول المحتوى والتركيز، وتدل على وفرة الإنتاج في هذا الجانب، كما تكشف عن تعددية المناهج المستخدمة في ذلك، وقد كان التراث التعليمي الإسلامي منذ العهد النبوي يقوم على فهم العلماء للقرآن الكريم، وما وصلهم من السنة النبوية المطهرة، وتجارب الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، ويمتزج التراث التربوي المكتوب في الحقول المتنوعة، مثل الفقه، والحديث، وعلم الكلام، والمنطق، والتصوف، ويختلط كذلك بالتوجهات المختلفة لدى العلماء في كل زمان ومكان، وتبدو فيه هيمنة المنهج الفقهي على الحياة الإسلامية في معظم الأحيان، وتطبيق هذا المنهج الفقهي في معظم الكتابات التي تخص التربية والتعليم.
ولا شك أن دراسة تطور الفكر التربوي له أهمية بالنسبة لتتبع مسار المواجهة بين الإنسان وكيفية حله لمشكلاته، لتمكنه من التكيف مع متغيرات الحياة، ولا شك أن دراسة تاريخ التربية موضوع يتناول العديد من الموضوعات التي كانت ولا تزال محل اهتمام الإنسان، ولا تقتصر على دراسة الفكر الإسلامي، بل لا بد من مقارنته بالفكر الإنساني العالمي، ولا شك أن مادة موضوع تطور الفكر التربوي الإسلامي أو العربي ليست جاهزة بين أيدي المفكرين بكل تفاصيلها، بل إن الأمر يحتاج إلى مزيد من العناية والاهتمام في هذا الجانب، حتى تكتمل الحلقات التي تضعنا على مجرى الفكر التربوي وتسلسله عند العرب والمسلمين على مر العصور.
من هنا فإن التغيرات تتطلب من المفكر العربي أو المفكر المسلم على وجه الخصوص أن يكون مؤهلاً تأهيلاً جيداً ليكون قادراً على مواجهة مستجدات العصر، على أسس علمية وأخلاقية سليمة، وهذا يتطلب ضرورة ربط مادة الفكر التربوي مع معطيات المجتمع المحلي الموجودة فيه، وأن يكون قادراً على التعامل مع التجديدات الاجتماعية والثقافية واستيعابها، مع أن قبول التجديد يحتاج إلى توفير الأرضية المناسبة وتغيير مناهج التفكير، الذي يعد من أصعب الأمور.
وقد واجه مفكرو التربية من علماء المسلمين على مر العصور العديد من الإشكالات التي نرى لزاماً على مفكري هذا الزمان من مناقشتها ومحاولة الاتصال بها، وتناولها في ظروفها الزمانية والمكانية، مما قد يساعد على تفسير بعض الظواهر، أو إلقاء الضوء على بعض الاتجاهات الفكرية التي تحاول أن ترسم معالم نهضة الأمة أو انحطاطها.
ولعل المنهج المناسب لدراسة الفكر التربوي هو أن نتعرف على الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة في المجتمع الذي ندرسه، ولا بد كذلك أن ننظر إلى الفكر الإنساني بوجه عام، لنعرف كيف يفكر الإنسان، وكيف تبنى العلاقات الإنسانية، ونوع القيم التي يعتنقها الناس في مجتمع ما، ونوع القيم والنظم التربوية التي تتصل بحياة المجتمعات، وذلك أن دراسة وتتبع العملية التربوية ليست مجرد سرد حوادث مجردة، إنما هي دراسة فكر تربوي ارتبط بظروف معينة، وله دلالة خاصة في زمن معين، فلا بد من ربطها بالظروف والأحوال التي نشأت فيها من حيث الزمان والمكان.