ومن منا لا يعرف البراء بن عازب صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ذلك الشاب اليافع الذي ردّه النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدرٍ لصِغَر سنّه، إلا أن ذلك لم يمنعه من مشاركته في بقيّة غزواته.
وكانت من الملامح البارزة لشخصيّة هذا الصحابي الجليل، شغفه بالعلم، الذي دفعه لملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى روى عنه كثيراً من الأحاديث النبوية، وهذه النفس الكبيرة الطامحة هي التي شكّلت شخصيّته العلميّة بعد ذلك حتى غدا من كبار فقهاء الكوفة.
لنعدْ سوياً إلى إحدى مواقفه العلميّة مع النبي صلى الله عليه وسلم، لنستخرج منها درساً مهماً، قلّ من يتنبّه إليه، فقد كان بين يدي سيد الخلق يتعلّم منه آداب النوم، وكان مما تعلّمه: دعاء النوم، ولفظه: (اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلى إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) فجعل البراء رضي الله عنه يكرّر ألفاظ الدعاء بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام حتى يحفظه، يقول البراء: فقلت أستذكرهن: "وبرسولك الذي أرسلت؟" فقال عليه الصلاة والسلام: (لا، ونبيك الذي أرسلت) رواه البخاري.
قالها البراء دون لحظٍ للفرق بين العبارتين: "وبرسولك" فجاء الإصرار النبوي على اللفظة المحدّدة: (وبنبيّك)، وبعيداً عن الفروق الاصطلاحيّة بين اللفظين، والخلاف القائم حول كل منهما، إلا أنه من المتفق عليه قيام هذين الوصفين في شخص النبي صلى الله عليه وسلم: النبوّة والرسالة، فما كان استبدالُ لفظٍ منهما بآخر يغيّر من الحقائق شيئاً، فما الذي يضرّ إن تغيّر هذا اللفظ بذاك؟ ولماذا الإصرار النبويّ على التقيّد بالألفاظ؟
هنا الدرس النبويّ يأتي ماثلاً أمام أعيننا، وهو أن هذا الذكر الوارد إنما هو داخلٌ في جملة العبادات؛ لأن حقيقة العبوديّة: الامتثال والطاعة لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، والذكرُ من جملة ما يرضاه الشارعُ لعبادِه، بدليل تعليم النبي صلى الله عليه وسلم صحابته ذلك الدعاء وطلبِ الدعاء به، فإذا كان الذكر من الدعاء، والدعاء من العبادة، وإذا كان مطلوباً من المكلّف التقيّد بألفاظ الدعاء، دلّ ذلك على أن العبادات مبناها على التوقيف.
هذا هو الأساس المتين الذي قامت عليه العبودية الحقّة، والذي يدلّ في المقابل على الرخاوة التي اتصفت بها الأمور المبتدعة والعبادات المخترعة، سواءٌ كانت في الأقوال أو الأفعال أو غير ذلك.
وهذا هو معنى القاعدة الشرعيّة المعروفة: "الأصل أن العبادات توقيفيّة"، أي أن ثبوتها يتوقّف على ما جاء عن الشرع فلا يزاد فيها ولا يُنقص، ولا يُعدّل أو يغيّر، مهما زُيّن ذلك لصاحبِه فرآه حسناً.
إن أمور الدين بكليّته أو بأجزائه التفصيليّة مرهونةٌ بالشرع دون غيرِه من مصادر المعرفة، فلا سبيل إلى معرفتها إلا عن طريق الوحي الشريف، وما لم يَرِد في الكتاب أو في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم دليلٌ بخصوصِه فهو بدعة، وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) متفق عليه.
ويُقال كذلك: إن الموقف النبوي الذي جاء المقال لأجلِه، يردّ على كثيرٍ ممن يخترعُ أحوالاً وأقوالاً وأفعالاً وهيئاتٍ يظهر لصاحبها جمالُها وروعتُها بحيث يعتقد أنها ستقرّبه إلى الله زلفى، فبدلاً من أن يجتهد في الامتثال لما ثبت من العبادات في الكتاب والسنة، نجده يذهبُ بعيداً عن هذا الطريق إلى جملةٍ من العبادات المحدثة التي لم يأذن بها الله.
ونقول لهؤلاء: مهلاً، فليس ما تقومون به مأذوناً به شرعاً، بل هو باطلٌ ومخالفٌ للحق؛ لأن ما تفعلونه هو من باب القول على الله بلا علم، ومن العدوان في حق الله عز وجل، قد نهى الله عنه في قوله: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الأعراف:33).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "باستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها، لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن يكون مأموراً بها، فما لم يثبت أنه مأمور به، كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يُشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى:21).
لقد أكمل الله تعالى لنا الدين ، فما لم يشرعه الله تعالى فليس من الدين في شيء. قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة:3)، ويؤيد ذلك ما ورد عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم). رواه الطبراني في "الكبير"، وعليه: فما لم يبنه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس من الدين، ولا مما يقرب إلى الجنة ويباعد من النار.
وقولنا: "مبنى العبادات على التوقيف"، يعني أنه لا يجوز التعبد لله تعالى بعبادةٍ إلا إذا كانت هذه العبادة قد ثبت في النصوص الشرعية أنها عبادة شرعها الله، وأن ما شرعه الله ورسوله مطلقاً كان مشروعاً كذلك، وما شرعه مؤقتاً في زمان أو مكان تقيد بذلك المكان والزمان، وأن إحداث هيئة جديدة للعبادة اعتماداً على العقل هو مخالف للمنهج الشرعي الذي أمر العباد بالتزامه.
ولْنضرب لذلك مثالاً يقرّب لنا هذا التصوّر: لو جاءنا مؤذن في صلاةٍ ما، فقال في ألفاظ دعائه: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله.. لانتفض الناس إنكاراً لصنيعه، حيث غيّر ألفاظ الأذان التي ينبغي التقيّد بها حرفيّاً، ولو تذرّع بأن سيادة النبي صلى الله عليه وسلم مسلّمةٌ شرعيّة عند المسلمين كافة، فلا يضرّ استحضارها وتثبيتها في ألفاظ الأذان؛ لأن الناس سيقولون وبلسان واحد: ما هكذا علمنا رسول الله الأذان، وهذا المثل الذي نضربه محلّ اتفاقٍ، فينبغي للعاقل أن يستصحبه في كلّ عبادة؛ لأن العلّة واحدة.
ويُروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على امرأةٍ يُقال لها: زينب، فرآها لا تتكلم فقال: "ما لها لا تكلم؟" قالوا: حجَّت مصمتَة -أي صامتة- فقال لها: "تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية" فتكلمت. فأنكرَ عليها هذا الفعل، ورأى أنه ليس من الدين، ولا يجوز التعبّد به.
ولنا في عمر بن الخطاب عبرة، الذي قبّل الحجر الأسود باعتبارِه جزءاً من المناسك الشرعيّة، ثم قال: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبلتك" متفق عليه، فما كان المبرّر أبداً للتعظيم أنه حجرٌ من الجنة كما ثبت في نصوص أخرى، ولكنه التقيد بالشرع.
ومِسْكُ القول ما قاله الجنيد: "الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه".