تعد مسألة اختلاط الراوي من المسائل التي اهتم بها علماء الحديث، قال ابن الصلاح عنه: "إنه فنّ عزيزٌ مهم". وتكمن أهميته في أنه يساعد في تمييز أحاديث الرواة الثقات الذين تغيروا بآخرة، لمعرفة المقبول من أحاديثهم أو المردود منها، أما المختلطين من الضعفاء فلا فائدة تُرجى من معرفة تاريخ اختلاطهم؛ لأنهم ضعفاء في الأصل.
والاختلاط حالة نفسية تطرأ على الإنسان لأسباب وعوارض تؤثر في عقله وحفظه، وهو أمر كوني قدري لا يلام عليه، ولكن الكلام على روايته، يقال: اختلط عقله فهو مختلط، إذا تغير عقله، وهو بمعنى الخَرَف، قال صاحب لسان العرب: "اختلط فلان أي فسَدَ عقلُه واختلط فهو مختلط، إذا تغيّر عقله"، والاختلاط في اصطلاح أهل الحديث: هو كون الراوي ثقة حافظاً، ثم يطرأ سوء الحفظ عليه لسبب من الأسباب.
أسباب اختلاط الراوي
هي كثيرة، منها: تقدم عمره، الذي يؤدي إلى الضعف في ذاكرته، الذي يتمثل في كثرة نسيانه. ومن الأمثلة التي يذكرها علماء الحديث على هذا، "عطاء بن السائب" الذي اختلط في آخر عمره، وساء حفظه، ومع هذا نجد أن البخاري قد أخرج عنه مقروناً بغيره.
ومن الأسباب كذلك العمى أو ذهاب بصر الراوي، خاصة إذا كان يحدث من كتبه التي لا يحفظها، ومثاله: عبد الرزاق بن همام، الذي ذهب بصره بعد 200هـ، كما قال الإمام أحمد، فمن سمع منه قبل ذهاب بصره فروايته صحيحة.
ومنها كذلك: فقدان كتبه، إما بضياعها، أو حرقها، أو لغير ذلك من الأسباب، ومثاله: عبدالله بن لهيعة الذي احترقت كتبه فكان يحدث من حفظه فرمي بالاختلاط. قال الحافظ ابن حجر في نزهة النظر: "ثم سوء الحفظ إن كان لازماً فهو الشاذ على رأي بعض أهل الحديث، أو كان سوء الحفظ طارئاً على الراوي: إما لكبره أو لذهاب بصره أو لاحتراق كتبه أو عدمها بأن كان يعتمدها، فرجع إلى حفظه، فساء فهذا هو المختلط"، أما إن يكون الراوي المختلط لم يحدث إلا من كتابه فهذا لا يتطرق إليه الضعف مثل عبد الرزاق فقد روى عن مصنفه حال اختلاطه. كما قال البخاري: "ما حدث عنه عبد الرزاق من كتابه فهو أصح".
حكم رواية المختلط
للعلماء في بيان ذلك الحكم تفصيل لا بد منه، ويمكن إجماله بأن نقول: إن روايات الراوي الثقة المختلط التي كانت قبل الاختلاط تُقبل، يعني: إذا عُرف أن هذه الرواية بعينها رويت قبل الاختلاط كانت مقبولة صحيحة. وإذا عُرف أنها رويت عنه بعد الاختلاط، لم يعمل بها، وكذلك إذا لم يعرف، هل رويت عنه قبل الاختلاط أو بعده توقف فيها حتى يوجد له متابعات وشواهد من طرق أخرى توافقه، فتقويه وتصححه، قال ابن الصلاح: "والحكم فيهم - أي المختلطين - أن يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يعرف هل أُخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده".
ويتم التعرف عليها إما بتصريح منه بذلك، أو بمعرفة تاريخ اختلاطه ومعرفة تاريخ هذه رواية هل كانت قبل أو بعد الاختلاط، كما قال الحافظ ابن حجر في نزهة النظر: "والحكم فيه أن ما حدث به قبل الاختلاط إذا تميّز، قُبل، وإذا لم يتميز تُوقف فيه، وكذا من اشتبه الأمر فيه، وإنما يعرف ذلك باعتبار الآخذين عنه"، ومثاله ما قاله الإمام أحمد بن حنبل: "سمع وكيع من المسعودي بالكوفة قديماً وأبي نعيم أيضاً، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالبصرة والكوفة فسماعُهُ جيد".
وكذلك إذا ثبت لدينا أن الراوي عن المختلط روى عنه ومات قبل اختلاط شيخه المختلط، أما روايته التي رواها بعد اختلاطه فلا تقبل، وإنما تُرد وتضعف، إلا إذا اتفقت الرواية عنه مع روايات الثقات الأثبات، ويمثل عليه العلماء برواية سعيد بن أبي عروبة، فقد نص الأئمة على من سمع منه قبل الاختلاط ومن سمع منه بعد الاختلاط.
وفي حالة أن يكون الراوي عن المختلط سمع منه قبل الاختلاط وبعده، وشك العلماء في رواية ما هل هي قبل الاختلاط أو بعده، ووجد لها أحاديث أخرى تشهد لها، فهنا تُعد هذه الروايات من قبيل الحديث الحسن لغيره، وفي حالة كون الراوي روى عن المختلط قبل الاختلاط وبعده، ولكنه تميّزت أحاديثه، فما مُيز من رواياته قبل الاختلاط فهو صحيح، وما لم يميز فهو ضعيف، أو أن تكون الرواية عنه بعد الاختلاط، ولكن لم يرو رواياته التي سمع منه في الاختلاط، فهذا كأنه لم يرو عنه مطلقاً.
أقسام الرواة الذين تغيروا بآخرة
يقسم الإمام العلائي المختلطين من الرواة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين لم يحط من مرتبتهم، ولم يوجب لهم ضعفاً، إما لقصر مدة الاختلاط وقلته، كما حصل مع إسحاق بن راهويه، قال أبو داود: "إسحاق بن راهويه تغير قبل أن يموت بخمسة أشهر وسمعت منه تلك الأيام ورميت به)، وإما لأن الراوي لم يرو شيئاً خلال مدة اختلاطه، ويمثل العلماء على ذلك بجرير بن حازم، قال عبد الرحمن بن مهدي: "جرير بن حازم أبو النضر العتكي الأزدي اختلط، وكان له أولاد أصحاب حديث، فلما خشوا ذلك منه حجبوه، فلم يسمع منه أحد في اختلاطه شيئاً"، وقال ابن سعد: "اختلط في آخر عمره، فحجبه أهله في منزله حتى مات)"، وأورده الذهبي في الميزان ثم قال: "فما ضره الاختلاط، وعامة من يموت يختلط قبل موته، وإنما المضعف للشيخ أن يروي شيئاً زمن اختلاطه".
والقسم الثاني: من كان متكلماً فيه قبل الاختلاط، فلم يحصل من الاختلاط إلا زيادة في ضعفه، ويمثلون عليه بعبد الله بن لهيعة.
والقسم الثالث: من كان محتجاً به ثم اختلط، أو تغير في آخر عمره، فيحصل الاضطراب في رواياته بعد ذلك، فيتوقف الاحتجاج بها بعد ذلك، ويضطر العلماء إلى ضرورة التمييز بين ما رواه قبل الاختلاط، وما رواه بعد ذلك.
ومما ينبغي التنبيه إليه في نهاية هذا المقام أن البخاري ومسلم أخرجا في صحيحيهما لعدد من الرواة المختلطين، على سبيل الانتقاء، وذلك بأحد أمرين: إما أن يتأكد أن هذه الرواية تم سماعها منه قبل اختلاطه، فهنا تقبل هذه الرواية، والأمر الثاني: إما أن يكون سمعها منه بعد الاختلاط، ولكنها تتفق مع روايات الثقات الأثبات، فهنا تقبل هذه الرواية كذلك، والله تعالى أعلم.