ولد ولي الله الدهلوي أحمد - المشهور بشاه ولي الله ابن الشاه عبد الرحيم، بن وجيه الدين بن معظم بن منصور... وينتهي نسبه كما يقول بعض المؤرخين إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه - عام 1114هـ، في قرية قريبة من دلهي من بلاد الهند، وقد ذكر عن نفسه أن جده الثالث عشر واسمه شمس الدين قدم إلى الهند في بداية الفتح الإسلامي، وتوطن فيها، وأقام مدرسة، وتولى منصب الإفتاء، ولم يزل هذا المنصب في أولاده يتوارثونه جيلاً بعد جيل، وهذا يدل على أنهم كانوا من أهل بيت علم وأئمة هدى، وتوفي 1176هـ.
وقد كانت بداية تعليمه على يد والده الشاه عبد الرحيم الذي كان عالماً جليلاً وفقيهاً، وكانت قد انتهت إليه الرئاسة في علم الحديث في عصره، فاهتم بتعليم ابنه وتربيته منذ الصغر، ودرس على أبيه معظم الكتب، حتى تخرج عليه في الخامسة عشر من عمره، ثم قرأ على غيره من علماء الهند، وبدأ بالتدريس وهو لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره، ثم رحل بعد ذلك في طلب العلم والحديث إلى الحجاز، وأقام في مكة والمدينة يدرس على علمائها، وهناك اطلع على مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولما عاد إلى وطنه استأنف التربية والتدريس في المدرسة الرحيمية، فذاع صيته في البلاد، وأقبل عليه الناس إقبالا منقطع النظير، فتفرغ عن التدريس لإعداد المدرسين، وخصص أوقاته لتدريس الحديث الشريف، والاشتغال بالتأليف، والاهتمام بالإصلاح.
ويعد شاه ولي الله الدهلوي من ألمع العلماء الذين أنجبتهم القارة الهندية، وقد كان لمدرسته الفكرية دور مهم في إظهار الإسلام وانتشاره في تلك المنطقة، ولا تزال مؤلفاته التي تتميز بغزارة معانيها، وقوة حجتها، مرجعاً مهماً لأصحاب التخصصات على اختلافهم، الفقهاء وأهل الحديث والتفسير وغيرهم، ولا تزال حركة الإصلاح التي بدأها تنير الطريق للعلماء جيلاً بعد جيل، حتى يومنا هذا.
ورغم صعوبة حصر جهود ومؤلفات حكيم الأمة الإمام ولي الله الدهلوي، إلا أننا سنحاول الوقوف على أهم المحطات والأعمال التي قام بها المحدث شاه ولي الله الدهلوي، والتي من أهمها كتابه: (حجة الله البالغة)، وكتابه: (إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء)، وغيرها.
أهم مؤلفاته
له مؤلفات كثيرة جداً، وفي كل المجالات الشرعية، وقد زادت عن سبعين كتاباً، وكان قد ألف بعضها باللغة العربية، وبعضها الآخر باللغة الفارسية، ثم تم ترجمة جميع هذه المؤلفات إلى اللغتين جميعاً، ومن مؤلفاته على سبيل المثال لا الحصر: كتاب فتح الرحمن في ترجمة القرآن، والفوز الكبير في أصول التفسير، وفتح الخبير بما لا لا بد من حفظه في علم التفسير، وتأويل الأحاديث في رموز قصص الأنبياء، والدر الثمين في مبشرات النبي الأمين، والنوادر من أحاديث سيد الأوائل والأواخر، والمسوى والمصفى في أحاديث الموطأ، والاتصاف في بيان سبب الاختلاف، وكتاب حجة الله البالغة، وغيرها الكثير والكثير.
دوره في التجديد والإصلاح السياسي
كان المحدث شاه ولي الله الدهلوي إماماً في العلوم النقلية والعقلية، وكانت صفاته التي تدل على الفهم والذكاء وعلو الهمة ظاهرة بشدة، وكان صادق الفراسة، وكان العصر الذي عاش فيه عصرا مليئا بالفوضى والاضطرابات، حيث تعرضت "دلهي" للعديد من الغارات والحوادث المؤلمة، فجعل الشيخ يوجه رسائله إلى الأمراء ينصحهم بالاستقامة والثبات على الحق، والتعاون على الخير في صد العدوان، والدفاع عن الإسلام والمسلمين.
دوره في التجديد العلمي والفكري
لا شك أن ولي الله الدهلوي قد زود المكتبة الإسلامية بعدد وافر من المصنفات المهمة القيمة التي تمتاز بسلاسة العبارة، والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية، في ضوء القرآن والسنة النبوية، والتي ذكرنا بعضاً منها، وكان السبب في مثل هذا النضوج والوعي هو طول المدة التي قضاها في الدراسة والتدريس، وكثرة العلماء الذين أخذ عنهم ودرس عليهم أصناف العلوم الشرعية، والذين كان من أهم وأكثرهم تأثيراً عليه، والده الشيخ عبد الرحيم الدهلوي رحمه الله تعالى.
وقد جاء العلامة الدهلوي في وقت كانت الدولة الإسلامية في حالة لا تختلف كثيراً عن الحالة التي تمر فيها هذه الأيام، من حيث التشتت وضعف الهمة، وهيمنة الأعداء عليها وتداعيهم عليها كتداعي الأكلة إلى القصعة، ومحاولتهم تقاسم خيرات المسلمين، فجاء بهمة عالية، ودعا الناس عامة وأمراء المسلمين خاصة إلى الاعتصام بحبل الله تعالى، وإلى نبذ الفرقة والتفرق، وإلى ترك العصبية المذهبية، ووضح لهم الاعتقاد الصحيح الذي يجب أن يعتقدوه، والفقه السليم الذي يجب أن يسيروا عليه، وحاول بكل همته أن يرجع قطار الإسلام إلى سكته التي ينبغي أن يكون عليها، وقد كانت دولة الهند في ذلك الوقت قد انفرط عقد الإسلام فيها، وبدأ الهندوس والسيخ يسيطرون على كل شيء، ولم يبق في أيدي المسلمين إلا القليل القليل.
وقد اهتم العلامة شاه ولي الله بالعقيدة، وجعلها نصب عينيه، ولم يقتصر جهداً في نشر الاعتقاد الصحيح المستمد من القرآن والسنة، تبليغه لكل من استطاع، لأنه كان يرى أن العقيدة الصحيحة هي الأساس المتين الذي يمكن أن تجتمع حوله كل تلك الفرق، وكل تلك الطوائف، وبدون هذه الاعتقاد يصعب تجميع المسلمين وتوحيدهم، ومن هنا فقد جعل الشيخ ولي الله التوحيد هو أساس دعوته، ثم تابع تلاميذه هذه المسيرة، وقاموا بتطبيق حركة الإصلاح والجهاد التي قادها الإمام المجدد سيد أحمد عرفان الشهيد، والشيخ محمد إسماعيل الشهيد، وأتباعهم من بعدهم، الذين وقفوا في وجه الاستعمار، وقاوموه، وثبتوا في أرض المعارك، وثبتوا في صد هجماتهم بكل أنواعها، والتي من أهمها التشكيك والتشويه، ووقف في وجه المعتقدات الوثنية والباطلة، وهاجم المنكرات والبدع، وقد كانت تلك المعتقدات الفاسدة منتشرة بشدة في تلك البقاع، وقد وضح الكثير من جهوده في هذا المضمار في العديد من كتبه، كالفوز الكبير الذي جعله في مخاصمة أعداء دعوة الإسلام من الطوائف الضالة الأربع، وهم المشركون، واليهود، والنصارى، والمنافقين.
واهتم العلامة ولي الله كذلك بالقرآن الكريم، حفظاً وتفسيراً، وألف كتابه فتح الرحمن في ترجمة القرآن، وركز اهتمامه بتدريس القرآن وتفسيره، ولم يكن في الهند قبل ذلك ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الفارسية، فكانت ترجمته فاتحة باب عظيم لنشر علوم القرآن، وتفاسيره، فاقتدى به تلاميذه من بعده، وقاموا بترجمة العديد من الكتب الإسلامية إلى اللغة الفارسية، ثم الأردية بعد ذلك.
واهتم كذلك بالأحاديث والسنة النبوية الصحيحة، ودعا إلى ضرورة التزام حركته التجديدية بالأحاديث الشريفة، وضرورة جعلها دائما نصب أعينهم، واهتم بحفظ المتون، وضبط الأسانيد، والاطلاع على دواوين الحديث، حتى أصبحت ترد إليه أسانيد رواية الحديث لجميع العلماء المحدثين في تلك البلاد، فأصبحون عنه يروون , وإليه يسندون، فقام بتأسيس منهجاً جديداً يعنى بالحديث وعلم الحديث، حيث اختار تدريس الحديث على منهج العلماء المتقدمين الأوائل، رواية ودراية، وكان قد آتاه الله تعالى العديد من أسرار علم الحديث والتي وضع بعضها أو الكثير منها في كتابه حجة الله البالغة.
وسعى شاه ولي الله الدهلوي إلى إصلاح التصوف، وأنكر على الكثير من طرقهم، وشطحاتهم، ورد عليهم، ووقف أمامهم، ودحض الكثير من اعتقاداتهم، ونصحهم بالوقوف مع تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وعدم السير خلف مشايخ الطرق الضالين، الذين يخدعون الناس بالطلاسم وغيرها، ودلهم على معنى التزكية والزهد والتصوف الصحيح السليم الخالي من البدع والشطحات والخرافات.
وساهم الدهلوي في عملية إصلاح الجمود الفقهي، والتعصب المذهبي، ودعاهم إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، واعتبارهما مصدر العقائد والفقه، وكان الشيخ الدهلوي يتمسك بالمذهب الحنفي، لأنه هو المذهب الذي كان منتشراً في تلك البلاد، إلا أنه كان يدعو إلى ضرورة الاهتمام بالدليل، وتناول مسائل الاجتهاد والتقليلد، وأصول التشريع الإسلامي، وكتب عدداً من المصنفات في هذا الجانب، مثل التفهيمات الإلهية، والإنصاف في سبب الاختلاف، وعقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، والمسوى والمصى شرحي الموطأ، وغيرها من المصنفات القيمة في هذا الجانب. ودعى المسلمين إلى عدم الوقوف خلف مذهب فقهي واحد، ودعا إلى أن لا تكون هذه المذاهب الفقهية أو المذهبية سببا في فرقة المسلمين، بل ينبغي أن يكون هدفها تخفيفاً وتسهيلاً وتيسراً لهم لا تضييقا وتشديداً عليهم. ودعا إلى ضرورة التسامح في المسائل الاجتهادية، وعدم جعلها سبباً للفرقة والقطيعة بين المسلمين، ودعا إلى محاولة التوفيق بين المذاهب بأن يكون مرجعهم جميعاً هو الكتاب والسنة.
اهتم حكيم الأمة شاه ولي الله الدهلوي بمسألة الخلافة، وكان يرى أنها الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد، وما يتعلق به من ترتيب الجيوش، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفع المظالم، وتحدث عن شروط الخليفة، وما يجب عليه من القيام بمصالح المسلمين، وتحدث عن الخلفاء الراشدين، وعن تاريخ المسلمين منذ ذلك الوقت إلى وقته الذي عاش فيه، وتحدث عن أن إقامة الخلافة وإثباتها أصل من أصول الإسلام. وتحدث عن أسباب انحطاط المجتمع الإسلامي بعد عصر الخلفاء الراشدين، وتحدث عن الفتن، وعن الأحكام المخصوصة بزمان الفتنة، وعن الأحاديث النبوية التي تتحدث عن أخبار آخر الزمان.
وتحدث عن رأيه من فرقة الشيعة، وقال: إن عقيدتهم تنافي عقيدة سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، ذلك أنهم يدعون حب آل البيت، ويسبون الصحابة، ويطعنون في نسائه عليه الصلاة والسلام، ويعتقدون بالإمام المعصوم، وهم باعتقادهم هذا ينكرون ختم النبوة، وإن كانوا يقولون بألسنتهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ولا شك أن جهود العلامة الدهلوي أكثر من هذا بكثير، ولكن هذا ما أمكنني الوقوف عليه في مثل هذا المقال، وخير الكلام ما قل ودل. هذا والله تعالى أعلم.