الحالة التاسعة : إلحادي جاء بعد أن اطلعت على مؤلفات المستشرقين !
الاستشراق orientalisme هو اسمٌ أطلق على مجموعةٍ من الأبحاث التي ظهرت منذ القرن 18 م، والتي تصبّ في خانة دراسة ثقافات وأديان الشرق، ويقصد بالشرق كل الشعوب التي لا تنتمي إلى الحاضرة الأوروبيّة والأمريكيّة ثقافةً وديناً، فيدخل في هذا المفهوم العرب والأفارقة والهنود والآسياويون، وقد كان للعرب نصيب الأسد من هاته الدراسات، فوقع فصلٌ بين دراسة الشعوب بشكل نفسيّ اجتماعيٍّ وبين دارستها بشكل عقديٍّ، فكان أن كل الدراسات الإجتماعيّة التي شملت تلك الشعوب يطلق عليها " السوسيولوجيا الاستعماريّة " أو علم الاجتماع الاستعماري Sociologie de la colonisation، وأصبح يطلق اسم الاستشراق على المؤلفات التي تناولت نقض أديان تلك الشعوب بشكل لاهوتيٍّ فلسفيٍّ !
وكان الهدف الأسمى لهاته الدراسات فهم تلك الشعوب قبل استعمارها، وإضعاف الدين في نفوسهم، لأنّهم كانوا على علمٍ بأن دين الإسلامِ خاصّةً له موقف صريح في دفع العدوّ المستعمر، وإعلان الجهاد على المغتصب.
وطبعاً ببروز الباحثين المعاصرين منذ القرن العشرين، أصبحوا يتناولون هاته الدراسات بالتحليل، واتفقوا على ردّها وعدم اعتبارها بالجملة لما لها من حمولاتٍ ونوايا للاستعمار المدفوعة بالحقد والضغائن وعدم الحياد، فلما خرج المستعمر ذليلاً مقهوراً من بلاد العرب، عمل على تسويق تلك الدراسات وتمويل ترجمتها، لما خلص إليه من استحالة الاستعمار العسكريّ الصريح، فأعلن شعار الاستعمار الثقافيّ والفكريّ .
ومن هنا يمكن أن أقول صراحةً ودونما نزاعٍ وتردّدٍ، أن كل الشبهات والافتراءات التي نسمعها من أفواه المرتدّين والملاحدة كما المنصّرين، لا تخرج عن كونها منقولةً عن هاته الحقبة الاستشراقيّة المقيتة !
ولهذا حينما ندرس هاته الشبهات دراسةً تمحيصيّةً كمتخصّصين، نجد مقدار الجهل الواقع فيها سواءٌ من جهة لغة العرب، كما منهجية النقل عن كتب التراث والتفسير والتاريخ !
فأوّل من ادعى وجود أخطاءٍ في القرآن الكريم ليسوا من العرب ولا فصحائهم، بل هم هؤلاء العجم الذين يكادون يمسكون أفواههم حتى يستقيم لهم نطق، وأول من أخرج الأحاديث الباطلة والموضوعة كما الضعيفة واستعملها كحجّةٍ للضرب في الإسلام، هم هؤلاء الأعاجم الذين لم يكونوا يفرقون بين كتابٍ للموضوعات وبين حديثٍ صحيح ! وغيرها ...
ولأجل تصوير صورةٍ قاتمةٍ لتاريخ الإسلام، تجدهم فضلاً عن ذلك يركزون على ذكر ما وقع من فتنٍ في تاريخ الأمة، علماً بأنّه عقلاً لا بدّ في تاريخ مسيرة الأمة أن تقع في أخطاء سياسيّةٍ وتسييريّة لأن المكلفون بالقيادة ليسوا معصومين، بل بشرٌ يصيبون ويخطئون، كما هو الحال في تاريخ كل شعوب العالم، لأن المنهج الإسلامي هو تطبيقٌ واجتهادٌ من البشر لتنزيل نصوص الوحي على الواقع، وكلما ابتعد المنهج عن الصراط القويم، كلما انحرف التطبيق !
" هذا بالإضافة إلى الدور الذي قام به هؤلاء المستشرقون في إفشاء روح الإقليمية والعنصرية بين المسلمين والتركيز على إثارة الفتن القومية بين الشعوب، كافتخار العربي بالعروبة والتركي بالتركية والمصري بالفرعونية، والكردي بالكردية، والفارسي بالفارسية وهكذا، فكان كل ذلك معول هدم وخراب، لذلك البناء المتين الذي أرسى قواعده الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، والعمالقة من أبناء الإسلام على مرّ العصور والأزمان، رغم أن الدين الإسلامي جاء وأزال كل هذه التصورات التي عدّها صفات جاهلية لا تتناسب مع الرسالة الربانية." -1-
فالخطأ الذي وقعتَ فيه أيها الملحد، أنه تولّدَ عندك قبولٌ لكل ما هو آتٍ عن الغرب من مؤلّفات، متيقّناً من صدقها، مطمئنّاً لما فيها وكأنّ هذا الغربيّ ملَكٌ من الملائكة لا يقول إلا حقّاً، وتناسيتَ في غلفةٍ أن الغربي مجرّد إنسانٍ يسري عليه ما يسري على البشر، من عدم إنصافٍ وحقدٍ ودفاعٍ عن قيمه الغربيّة ولو بالباطل !
فوقعتَ ضحيّة تلك المؤامرة الاستشراقيّة التي رأيت نتائجها في تاريخ أمتك ولا تزال تراها عبر وسائل الإعلام، تعيشها أمتك وأبناء جلدتك !
إنّما الباحث المنصف بحقّ هو الذي يبحث لوحده متحليّاً بالإنصاف وأركان البحث العلميّ، بشكل محايدٍ دونما تأثير من طرف غربيٍّ، فلا تبع عقلك بفلسٍ كالإمّعة إن أراد له فلانٌ هذا أقرّه، وإن أراد له ذاك فعله !!
وهذا القرآن الكريم أمامك وكتب السنة الصحيحة في متناولك، ولغة العرب تعرفها، وعقلك معك غير تاركك، وفطرتك عندك تحدّثك، فأقبل على نور الوحي واقرأه بتجرّدٍ، تكن إن شاء الله من المبصرين .
وموضوع الاستشراق هذا سنتطرق إليه في سلسلة مقالاتٍ مفصّلةٍ ستصدر في حينها وبالله التوفيق .
هوامش المقال
-1- عن كتاب الاستشراق وموقفه من السنة النبوية ص : 42.