الحالة العاشرة : ألحدت بعد عدم استجابة الإله لدعائي ؟! ولو كان موجودا لاستجاب لكل دعواتي !
هذا الاعتراض مشهورٌ عن الملاحدة كثيراً، ومبنيٌّ على خللٍ في مفهوم تصور الدعاء، والذي يعانيه كثيرٌ من البشر ممن لم يعرف العقيدة الصحيحة والإيمان الصافي !
فتصوّر الملاحدة أن الإله موجودٌ إذن فعليه أن يجيب كل دعوات البشر، وهذا في حدّ ذاته متمحضٌ في البطلان، وذلك من وجوهٍ :
أولا : هب أن الإله حقق للبشريّة جميعاً كل ما تسأل، فهذا سينفي في حقّه الحكمة، فأما لأن الإله مطلق الحكمة فاستجابته لكل دعوات البشريّة سيسبّب اختلالاً في الكون، فلو أغنى كلّ البشريّة لتعطلت مصالح الناس ! ولما بقي هناك من يكدّ ويعرق، أو يشتغل في الوظائف لقضاء المآرب، وترفعت هاته البشريّة عن خدمة بعضها البعض !!
وأضرب مثالا تقريبيّاُ، فعامل النظافة الذي ينظف الشوارع ويتكلّف بجمع قمامات النّاس، مثلا لو أغناه الله من فضله، لما بقي من يشتغل في هذا الميدان ولأصبحت هاته البشريّة الغنيّة تحير كيف تنظف شوارعها وتتخلص من قمامتها ومن ستكلّف بهذا ؟ فالكل أغنياء والغنى يورث ترفّعاً عن كثير من المهن ويورث كسلاً !
وهكذا دواليك في كل المجالات الحيويّة فلماذا سيحتاج الناس حينها للكدّ وهم قد وصلوا لمنتهى الغنى ؟ ومن الطبيعي أن الغنى من أسباب الطغيان والتي ذكرها الله تعالى صراحة في القرآن : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدَرٍ ما يشاء إنه بعباده خبير بصير } ( الشورى : 27)
يقول ابن عاشور رحمه الله : " أي أن الله أسس نظام هذا العالم على قوانينَ عامةٍ وليس من حكمته أن يخص أولياءه وحزبه بنظام تكويني دنيوي ولكنه خصهم بمعاني القرب والرضى والفوز في الحياة الأبدية. وربما خصّهم بمَا أراد تخصيصهم به مما يرجع إلى إقامة الحق. ومعنى الآية: لو جعل الله جميع الناس في بسطة من الرزق لاختلّ نظام حياتهم ببغي بعضهم على بعض لأن بعضهم الأغنياء تحدثه نفسه بالبغي لتوفر أسباب العُدوان كما علمت فيجد من المبغي عليه المقاومةَ وهكذا، وذلك مفض إلى اختلال نظامهم.
وبهذا تعلم أن بسط الرزق لبعض العباد كما هو مشاهَد لا يفضي إلى مثل هذا الفساد لأن الغِنى قد يصادف نفساً صالحة ونفساً لها وازع من الدين فلا يكون سبباً للبغي، فإن صادف نفساً خبيثة لا وازع لها فتلك حالة نادرة هي من جملة الأحوال السيئة في العالم ولها ما يقاومها في الشريعة وفصلِ القضاء وغَيرة الجماعة فلا يفضي إلى فساد عام ولا إلى اختلال نظام." -1-
ثانيا : أن تصور الملاحدة هذا ينفي صفة الإرادة للإله، فالله تعالى فعّالٌ لما يريد هو لا لما تريده البشريّة القاصرة بعقلها والتي تبحث فقط عن منفعتها بشكلٍ أنانيٍّ فردانيٍّ ! فمقتضى إرادته أن يمنع هذا ويستجيب للثاني، ويؤخر الثالث، فقد يكون الأول أراد وظيفةً مثلاً لم ييسر الله له فيها لما علمه مما قد يعانيه فيها على سبيل المثال، فقد يمنعه وتتيسر له وظيفة أخرى أفضل، حتى إن خير بين الرجوع إلى ما دعى به وبين ما حصل له واقعاً لاختار الواقع !
وأما الثاني فقد يستجيب له وييسر له الأمور لأن ذلك أصلح له، وأما الثالث فقد يتأخر لحكمةٍ لأن الظروف لم تكن مواتيةً لذاك العبد في ذاك الزمن ...
واستجابة الدعاء مرهونةٌ أيضاً بحال العبد السائل، فمن الناس من لا يصلح لهم إلا الفقر ومنهم من لا يصلح لهم إلا الغنى وقد ذكر ابن كثير رحمه الله ذلك فقال : " ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم، وهو أعلم بذلك، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر. كما جاء في الحديث المروي: "إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه. " -2-
ثالثا : أن نفي استجابة الدعاء هكذا بإطلاقٍ هو تشغيبٌ من الملاحدة فقط، لأنه يستحيل أن الملحد قبل إلحاده ألا يكون الإله قد استجاب له بالمطلق، وإنما الإنسان كان نسيّاً، يعيش نعماً لا حصر لها، وأناله الله غالبية ما تمنّى في نفسه ومع ذلك لك نسي فلم يشكر النعمة وكفر { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا واللآخرة ذلك هو الخسران المبين } ( الحج : 11)
رابعاً : أن هاته الحياة الدنيا هي حياةٌ للامتحان والاختبار وكل البشريّة تعيش هذا الإمتحان، ومقتضاه ألا يجيب الدعاء فتنةً لهذا واختباراً لذاك، ويمرض هذا ويميت ذاك، ويفقر هذا ويغني الآخر ... مصداقاً لقوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين } ( البقرة : 155)
كل ذلك من أجل أن ينال المؤمنون الصابرون الجنة وينال الكافرون الساخطون النار، كلّ بحسب مقدار عمله وكنهه، { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور } ( الملك : 2).
خامسا : لنكن صريحين مع الملحد ماذا فعلتَ حتى تستحقّ استجابة الدعاء ؟ فلعلك أيام إسلامك كنت تعيش إيماناً ضعيفاً مفرطاً في جنب الله، تاركاً لشتى العبادات ؟ فإنما محبة الله تعالى تكتسب بكثرة اجتهادك في الخير، وبالنوافل والطاعات والإكثار منها، وتزكية النفس حتى تصل لمرتبة الولاية، وما أدراك ما الولاية فعن النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري.
سادسا : أن الدعاء له آدابه المبسوطة في كتب الفقه الإسلامي، والله عز وجلّ لا يؤتي عبداً ما سأل حتى يحقق الأسباب الروحيّة والدنيويّة له، وليس عبداً متكئاً على أريكته متكاسلاً يريد طيبات الدنيا والآخرة .
فإن علمتَ ذلك فافقه، وإن فقهته فاعمل به، فأنت الآن على خطرٍ عظيمٍ جدّاً لن تدركه حتى تقع الفأس في رأسك ولن ينفعك حينها اعتذارٌ أو ندم.
هوامش المقال
-1- تفسير التحرير والتنوير.
-2- تفسير ابن كثير للآية 27 من سورة الشورى .