اتفقت نصوص الوحي على إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى، كما دلّ على ذلك العقل الصريح أيضا.
ومن الطرق العقلية المعتضدة بالوحي، لإثبات الكمال لله تعالى: قياس الأولى.
والمراد به أن يقال: إن الخالق أولى بالكمال من المخلوق مطلقا، وذلك في جهتي النفي والإثبات معا.
ففي جهة النفي: كل نقص تنزه عنه المخلوق، فإن تنزه الخالق عنه أولى.
وفي جهة الإثبات: كل كمال لا نقص فيه ثبت للمخلوق، وأمكن اتصاف الخالق به، فالخالق أولى به.
وهذا القياس الأولوي هو الذي يمكن استعماله في باب صفات الله تعالى، دون غيره من أنواع القياس.
فقياس التمثيل – وهو قياس العلة المعروف في المباحث الفقهية – لا يمكن استعماله في باب صفات الله تعالى، لأنه يقتضي التمثيل والتسوية بين الأصل والفرع، والحال أنه لا مماثلة بين الخالق والمخلوق.
وقياس الشمول – وهو اجتماع الفرع المقيس والأصل المقيس عليه في قضية كلية يستوي أفرادها – غير وارد هنا أيضا، لأنه يستلزم التسوية بين الخالق والمخلوق، والله تعالى: { ليس كمثله شيء } (الشورى:11).
ويدل قياس الأولى على ثبوت صفات الكمال لله تعالى من وجهين:
الوجه الأول: الترجيح، ومعناه: أن كل كمال ثبت للمخلوق المحدَث الممكن، يجب إثباته للخالق المحدِث الواجب، من باب أولى، بدليل الفطرة والبداهة العقلية.
ومما يدل على ذلك من النصوص: قوله تعالى: { وله المثل الأعلى في السموات والأرض } (الروم:27). والمثل الأعلى مشتمل على إثبات صفات الكمال المطلق، والتنزيه عن صفات النقص.
الوجه الثاني: دلالة الأثر على المُؤثر.
وهذا الوجه هو موضوع هذا المقال.
شرح الدليل
المراد بهذا الدليل: أن الذي يهب الكمال ويعطيه ويفعله، أحق بأن يتصف به من الموهوب الذي يُعطاه هذا الكمال.
فما في المخلوقات من العلم، يدل على أن الله أعلم. وما فيها من الحياة، يدل على اتصاف الله سبحانه بالحياة الكاملة. وما فيها من القوة، يدل على أن الله أقوى، وهلمّ جرا.
وهذا كله مما تقرّ به بدائهُ العقول، حتى إن جماعة من الفلاسفة لم يخالفوا في هذا المعنى. فقد جاء عن أفلاطون مثلا أن وجود الكمال في الأشياء الموجودة بدرجات مختلفة، يقتضي بالضرورة وجود كائن يمتلك هذه الكمالات في درجتها العليا، وهو أحق بالكمال من الاشياء كلها. وهذا يعد من ضمن أدلة وجود الله التي استعملت في بعض الكتابات اللاهوتية النصرانية، وأصلها من الفلسفة القديمة.
والفرق بين هذا الدليل والذي قبله، أن الأحقية بالكمال في الوجه الأول من جهة كون الخالق أفضل من المخلوق مطلقا. فهي أحقية متعلقة بالذات والأفعال عموما.
وأما الأحقية في هذا الوجه فمن جهة أن فاعل الكمال أحق بالاتصاف به . فهي متعلقة بفعل هذا الكمال خصوصا.
وهذا الدليل خاص بالكمال، لا يتعداه إلى النقص. فمن المستقر في بديهة العقل، أن الذي يهب النقص لا يلزم أن يكون متصفا به. فالذي يقتل غيره لا يلزم أن يكون هو ميتا، والذي يجعل غيره عاجزا لا يلزم أن يتصف هو بالعجز، وهلم جرا.
كلمة في معنى الكمال
وهنا يرد السؤال الذي لا بد معه من وقفة قصيرة:
ما ضابط صفات الكمال؟ وكيف نحترز من إثبات صفة لله، هي كمال في حق المخلوق، ولكنها – عند التأمل – نقص في حق الخالق؟
والجواب: أن المراد بصفة الكمال ما كان كمالا لذاته، أي بقطع النظر عن المتصف به، خالقا كان أو مخلوقا. ويتحقق ذلك بالنظر في هذا الوصف هل يستلزم ما ينافي صفات الكمال الثابتة لله تعالى أم لا؟
مثال ذلك: الولادة والنمو ليسا كمالا في حق الخالق، لأنهما يستلزمان إمكان العدم السابق، فينافيان كمال وجوبه وقيوميته. مع أنهما كمال في حق المخلوق، بحيث يعد المخلوق ناقصا إن فقد هاتين الصفتين.
والنوم والطعام والنكاح كذلك ليسا كمالا في حق الخالق سبحانه، بل هما ممتنعان في حقه تعالى، لأنهما يستلزمان الحدوث والافتقار المنافيين للأولية والغنى. وهذه الأوصاف كمال في حق المخلوق، من فقدها كان ناقصا.
دليل من القرآن
مما يمكن الاستدلال به على صحة هذا الدليل العقلي، قوله تعالى: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } (فصلت:15).
فبين الله تعالى أن عادا بلغ من استكبارهم في الأرض، أنهم ظنوا أنْ لا أحدَ أقوى منهم، وصرّحوا بذلك بقولهم: (من أشد منا قوة؟). فكان الرد الإلهي عليهم واضحا، بالإرشاد إلى أن كل قوة لهم يتكبرون بها إنما مصدرها الله سبحانه، فهو خالقهم وواهب القوة لهم. فقوتهم إذن ليست ذاتية وهبوها لأنفسهم، إذ هم مخلوقون مربوبون، وحين خُلقوا لم يكن لهم من الأمر شيء، ولا من القدرة ما يدفع به الواحد منهم عن نفسه أدنى أذى.
فالذي خلقهم أولى بالاتصاف بالقوة منهم.
وهذا الاستدلال واضح من قوله تعالى (الذي خلقهم). أي أن كونه خالقا لهم، هو الذي يجعله أولى بالاتصاف بالقوة منهم.
والله الموفق.