"الإنسان جميل.. بل هو أجمل المخلوق في الأرض، وتلك حقيقة طبيعية، ثم إن مصادر الإسلام تحدثنا أن الله قد خلق الإنسان في أجمل صورة وأحسنها" -1-
قال تعالى مخاطباً هذا الإنسان الجميل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق:1).
أول فعل استدل به الله بعد القراءة هو فعل الخلق وكأنه سبحان يلفت نظر نبينه في كتابه المسطور إلى جمالية الكون المنظور؛ فالقراءة في كتاب الله المنظور يعزز الإيمان ويبين الإعجاز، وفي هذا يقول الشيخ فريد الأنصاري عن جمالية حركة اللون المنتشرة هنا وهناك في الحيوان والإنسان: "هو أمر لا يملك المؤمن معه إلا أن يكون من الساجدين لمن أفاض على الكون بهذا الجمال كله! الجمال الحي المتجدد! إنها لآيات تربي الذوق الإنساني على جمالية التوحيد والتفريد، مما تعجز الأقلام والألوان على تجسيد صورته الحياة النابضة! وأي ريشة في الأرض قادرة على رسم الحياة؟!" -2-
إنه تحدٍ جمالي إبداعي، فهل تملك ريشة الرسام مهما كان بارعا في الرسم أو النحت أن يعطي صورته أكثر من أبعاد جافة لا حياة فيها، فلننظر إلى صورة الولادة كيف تخرج الحياة راسمة عدداً لا متناهياً من الصور، تسرق لب الناظر ويحتار فيه الحكيم، كيف تم ذلك من أبدعه ونقله من عدم الحركة إلى كائن حي، لو اجتمعت البشر على أن تأتي بأصغر صورة منه ما استطاعت {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}(سورة الحج:73).
ويقول علي عزت بيجوفتش واصفاً هذا الإبداع المعجز في عملية الخلق والتخليق:
"قد يكون النظر في (خلق العالم) هو الخبرة الدينية الأعمق، فالطبيعة مليئة بالعجائب، غير أن بذور الزهرة تدهشني دائماً أكثر من أي شيء آخر، وقد اعتدت أن أفتح الزهرة وأتأمل في إعجاب متجدد نظم البذور الصغيرة داخلها، هل تأملت يوماً زهرة هندباء جافة بدقة، إن كل بذرة صغيرة_ وهناك على الأقل مائة منها على كل زهرة_ نظام معقد للغاية في حد ذاتها، والبذرة الأولى مجرد جزء صغير من هذا النظام المعقد، وهناك غذاء احتياطي ومظلة صغيرة أو أجنحة مصنوعة من أرق مادة في الطبيعة، وفي الحقيقة هي المادة الأكثر فعالية،فلو أن كل معرفة العالم التي جمعها الناس منذ الأزمان السحيقة حتى اليوم، مجموعة في مكان واحد من أجل مهمة واحدة فقطن لا يمكنها إنتاج بذرة واحدة من هذه البذور، ذلك لأنه داخل هذه البذرة الصغيرة للغاية يوجد ما هو أكثر من مجرد الينبوع الصغير الغامض المسمى حياة (قوة الحياة) فهي تحمل أيضاً شفرة النبات القادم وشكله ولونه ورائحته وقدرته على التكاثر.."-3-
من محاسن الخلق
1. الإعجاز: ويعتبر من أهم محاسن الدين، حيث أنه أسس وأعطى المؤمن حجة لا يمكن دحضها، وهذه الحجة أقرب للإنسان من نفسه؛ فهو كل يوم يرى هذا الإبداع المتكرر في الخلق، ولا يرى في الطبيعة الصامتة ما يضاهي هذه المخلوقات وحياتها= فوجب أن يكون لهذا الخلق من خالق مصور جل في علاه.
2. التشريف والكرامة، قال تعالى: {الذي خلقك فسواك فعدلك} فهو الذي جعل قامتك منتصبة ليست كسائر الحيوانات، وهذا من تمام التكريم والتشريف؛ حيث جعل أعلى رأسك إلى ارتفاع كناية عن كرامتك وعلو مكانتك بين خلقه، "وقد أحصى برامبل Bramble وليبرمان Liberman ست عشرة مزية للجسم البشري تظهر للمرة الأولى في الإنسان المنتصب هذه المزايا ضرورية إذ أنها تحقق اتزان الرأس وستمح بالدوران المتعاكس بين الجذع والرأس وبين الجذع والوركين وتحقق الاتزان وتمكن من امتصاص الصدمات ونقل الطاقة ثناء الركض، ولا بد أن تتم هذه العديد من هذه التغيرات في آن واحد لتتحقق الفائدة منها"-4-، وهذا التشريف لا يحصل إلى في اعتقاد معنى الخلق.
وهنا أنبه على خطأ يحصل في فهم التطور الداروني، فكثير من إخواننا يعتقد أن القائل بنظرية التطور يقول بأن الإنسان تطور من سلالة القرود، وهذا أرفع مما أعطته الدارونية للإنسان من حيث أصله، فالصحيح في هذه النظرية أنها جعلت الإنسان والقرد من أصل مشترك، فشرف أن تكون القرود أصل لنا = شرف ما ادعته الداروينية، بل تجعل الإنسان أخس من ذلك وأحط.
3. الرحمة: إن خُلق الرحمة لا يتم إلا إذا جزمنا بفعل الخلق؛ فماذا سيعني هذا الكون إن كان عبارة عن مواد تتصارع وتفني بعضها بعضاً، وقد جاء في كتابه عز وجل: {كتب ربكم على نفسه الرحمة }(الأنعام: 54) وجاء في الحديث الصحيح عن النبي _صلّ الله عليه وسلم-:(الراحمُونَ يَرحمُهُم الرحمنُ، ارْحَموا مَنْ في الأرض يرحمْكُم من في السَّماءِ) ؛ أخرجه الإمام الترمذي وصحَّحه، هذا من حيث التأصيل أما من حيث التطبيق (ما ورد عن الصحابة أنهم أخذوا فرخي الحمرة_ وهي طائر مشهور_ فقال لهم: من فجع هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها) صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2675).
ولنتبين هذه الحسنة الفريدة في الشرع نقارنها في منطلقات الإلحاد، فالإلحاد يقيم قوامه من حيث الكون الفيزيقي _الفيزيائي_ على أنه كون مهمل تمضي به المادة على غير هدى، وأما من حيث الأصل البيولوجي الداروينية فالفكرة المركزية هنا هي فكرة الصراع من أجل الأقوى.
فإذا كان الوجود الإنساني لا معنى له في كون عشوائي= فأي قيمة ستكون للرحمة، بل في عالم كهذا ستكون صفة الرحمة صفة ضعف لا صفة سمو كما قرر فيلسوف الإلحاد نيتشة في فلسفته.
وأما على الجهة الأخرى فنظرية دارون قائمة على معنى الصراع من أجل البقاء، فأين ستجد الرحمة إن كان أصل نشوء الكائنات الذي هو الصراع ضد معنى الرحمة. !
مجددا لا معنى لقيمة الرحمة في عالم لا يؤمن إلا بالمادة.
4. الحرية: في دلالة الخلق على الحرية يقول تعالى في أول سورة الإنسان: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} (الإنسان 2-3)
هنا أتبع جل جلاله فعل خلق الإنسان بإعطائه طريقي الخير والشر وفي هذا تمام الاختيار وأسّ معنى الحرية، فأصل الدين ما قام على التكليف، وبالتكليف والفطرة التي تأتي مع أصل الخلق يصبح الإنسان حراً مختاراً بين الحق والباطل.
ولنعد الكرة مرة أخرى ولنأخذ معنى الحرية في الإلحاد، فالنظرة الأساسية للإلحاد بخصوص الحرية يقدمها تشارلز دوكنز Richard Dawkins و زميله لورانس كرواس Lawrence M. Krauss حيث قال الأخير: كل شيء أعرفه عن الكون يدل على عدم وجودة حرية الإرادة"! -5-
وهذا اتساق قل أن يحدث من قبل فرسان الإلحاد الجديد، وهو على درجة كبيرة من الأهمية، ويبين أن الدين هو الأقرب اتساقاً وعقلاً مع الإنسان، و سأشير إلى خطرٍ واحد من مخاطر هذا القول على لسان أحد سفاحي الملاحدة وهو جيفري دامر Jrffery Dahmer حيث قال: "إذا كان المرء لا يؤمن بوجود إله ليحاسبه، إذن ما هي الفائدة من محاولة تعديل تصرفاتك لتبقى في الحدود المقبولة ؟!، هذا ما اعتقدته على أي حال، كنت دائما أعتقد بأن نظرية التطور حقيقة، و بأننا أتينا من الوحل، عندما نموت، لا يوجد شي ". -6-
بعد هذا النقل لك أن تتأمل محاسن الحلق في تأسيسه لمعنى الحرية.!
هوامش المقال:
1. جمالية الدين معارج القلب إلى حياة الروح، الشيخ فريد الأنصاري، ص24.
2. جمالية الدين معارج القلب إلى حياة الروح، الشيخ فريد الأنصاري، ص24.
3. هروبي إلى الحرية، علي عزت بجوفتش، ص 103.
4. العلم وأصل الإنسان، آن جوجر- دوجلاس إكس- كيسي لسكين، صفحة 45، ترجمة د. مؤمن الحسن – د. موسى إدريس.
5. مقطع على: https://www.youtube.com/watch?v=isBgZnTJqj0 في الدقيقة 1:41 .
6. Jrffery Dahmer , Interview with stone Phillips ,Dateline NBC, Nov, 29, 1994