لم يسبق أن واجه مسلسل تركي لغطاً وجدلاً أكثر مما أثاره المسلسل التاريخي الشهير "القرن العظيم" المعروف عربياً بـ "حريم السلطان"، والذي استقُبل بـ 70 ألف شكوى أرسلت ضده إلى المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون التركي، وذلك لتقديمه صورة درامية -مُختلقة- لحياة السلطان العثماني سليمان القانوني كزير للنساء وشخصاً غارق في ملذاته وشهواته.
عُرض المسلسل في أربعة مواسم في الفترة ما بين 2011-2014، وحاز على نسب مشاهدة وعوائد تجارية عالية جداً. سِيقت أحداث المسلسل من خيال كاتبة -علمانية التوجه- سارعت بعض القنوات العربية الشهيرة إلى عرض المسلسل متفانية في تقديم السلطان العثماني- الذي ملك البحار وجال في الديار- لمشاهديها عبر لقطات تسويقية مبتذلة اخُتيرت بعناية كدعاية مشوقة في اتساق فكري بيّن المنتج والمرسل لا يخلوا من دلالة!
انتقلت ساحة المناكفة بين أردوغان ومناوئيه من قبة البرلمان إلى إطار الشاشة، ذلك بعد أن عجزوا من النيل منه سياسياً، قرروا كبح جماح تمدده شعبياً، وتشويه رموزه إعلامياً عبر سياسة شكك ثم فتت.
رجب طيب أردوغان -أيقونة الإسلام السياسي في تركيا والعالم- كان أبرز المنتقدين لمسلسل حريم السلطان قال في أحد خطاباته للشعب التركي: "نحن لا نعرف السلطان القانوني بالشخصية التي يظهر بها في المسلسل، واصفاً ما حدث بأنه تلاعب في الحقائق التاريخية" مهدداً في الوقت نفسه بمقاضاة المتسببين.
حاول أردوغان تذكير الأتراك وغير الأتراك بمقام السلطان سليمان القانوني بطريقته الخاصة حين قرر تقديم هدية مفخخة للرئيس الفرنسي - السابق المتعجرف - ساركوزي حين تقصّد الأخير زيارة تركيا باعتباره رئيساً لقمة العشرين وليس رئيساً لدولة فرنسا - تزامنت الزيارة مع بداية بث المسلسل - كانت الهدية عبارة عن رسالة استغاثة وعون بعثها ملك فرنسا "فرنسيس الأول" للسلطان سليمان عندما وقع أسيراً في يد الإسبان، فكان رد السلطان له: "أنا سلطان السلاطين وبرهان الخواقين، أنا متوج الملوك ظلّ الله في الأرضيين، أنا سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر.. إلى أن قال: لا تكن مشغول الخاطر فإننا فاتحون البلاد الصعبة والقلاع المحصنّة وهازمون أعدائنا، وإن خيولنا ليلاً ونهاراً مسروجة، وسيوفنا مسلولة.. إلخ".
مسلسل "قيامة أرطغرل"
عنونت أحد الصحف التركية عن المسلسل التاريخي "قيامة أرطغرل" بأنه "ضربة في كبد علمنة تركيا وأتاتورك"، المسلسل عبارة عن دراما تاريخية إسلامية سينمائية -مضادة- تمجّد الغازي "أرطغرل" الذي أنجب "عثمان الأول" أول سلاطين الإمبراطورية العثمانية، كما تُعلي من شأن والده "سليمان شاه "زعيم قبيلة "القايى" إحدى أهم القبائل التركية التي تنتمي لشعوب "الأوغوز" بادية الترك.
أبدع مخرج المسلسل الساحر بتقديم "قيامة أرطغرل" كتحفة فنية تصّدرت حديث المجالس التركية والعربية، بدء عرض المسلسل في ديسمبر/2015 على الشاشة التركية"TRT1" . تروِي أحداث المسلسل قصة انتصار الحق على الباطل والعدل على الطغيان بمعالجة درامية نوعية، وإخراج فني متفّرد، تخللته أحداث مكثفة وعُقد درامية، تزيد من ارتفاع نبضات القلب، وتحضّر الجسم لحالات من الكر والفر.
استطاع كاتب المسلسل أن يرسي بناءه على ثلاثة قواعد متينة "القرآن، الراية، السيف"، تمكّن بذكاء إبراز عظمة الإسلام، ووحدة المسلمين وشجاعة الترك، في سياق درامي لم يخلوا من المبالغة وبعض التجاوزات التاريخية. حقق المسلسل نجاحاً كبيراً منذ الأسابيع الأولى لانطلاقته، ومازال حتى الساعة يواصل تحطيم الأرقام القياسية من حيث معدلات المشاهدة التي ترتفع تدريجياً مع عرض كل حلقة جديدة "يجري حالياً إنتاج وعرض حلقات الموسم الثالث".
تحدثت كثير من المصادر حول دعم الرئيس التركي أردوغان وحزب الحرية والعدالة والتنمية لهذا المسلسل، وأنه جاء في سياق الرد على مسلسل "حريم السلطان" كمتابع أستطيع القول بوضوح أن المسلسل حظي -بلا شك- برعاية وقبول واضحين من الرئيس أردوغان، فمع بداية عرض الحلقات الأولى من المسلسل قام أردوغان بزيارة خاصة لمواقع تصوير المسلسل ليبارك أعمالهم ويشدّ على عزيمتهم في رسالة ذات دلالة، في المقابل وفي نفس الفترة يقوم رئيس الوزراء التركي -آنذاك- أحمد داود أوغلوا بزيارة المقر الجديد لضريح "سليمان شاه".
بعد متابعة دقيقة لكامل تفاصيل المسلسل بجزأيه الأول الثاني -61 حلقة- تملكّني شعور عميق بذلك الجهد العظيم المبني على رؤية عميقة ونظرة ثاقبة وبُعد استشرافي غاية في الحدة والذكاء، سعى القائمون من خلاله إلى استخدام أكثر الأدوات الناعمة فتكاً، بغية التوغل وإعادة الانتشار وفقاً لقواعد اللغة السينمائية المبهرة صوتاً وصورة، كل ذلك لاستلاب ما يمكن استلابه من منابت الخير في قلوب وعقول الأتراك من جهة، واجتثاث ما تبقى من قلاع الإرث الأتاتوركي العلماني. من جهة أخرى المسلسل شبيه إلى حد ما بالعملية التقنية المعروف "إعادة ضبط إعدادات المصنع" لذاكرة إسلامية تركية عتيقة، يعتقد أحفادها أنها سطّرت للعالم أجمع حقيقة الزعامة وسّنت معاني الانتصار وأرست قوانين العدالة.
بمناسبة ذكرى مرور 563 عاماً على فتح القسطنطينية يخرج محاربو "أرطغرل" الأشداء المقاتل المجالد "تورغوت" والأسد الهصور "بامسي" وبكل أنفة وعزة يصرخان بصوت عالٍ في خطبة عصماء تفيض إيماناً وعزةً وإباءً يخاطبون البعيد المتربص والقريب المسُتأجر "الأتراك قادمون.. الأتراك قادمون" ويتوعدون قيصر الروم بزفةٍ تليق به إلى جهنم بعد أن يقوموا -ابتداءً- بتعليق رأسه على أسنة أرماحهم التركمانية البدوية الأصيلة.
كما سجل نجوم المسلسل أيضاً موقفاً مشرفاً ضد الانقلاب الأخير الفاشل في تناغم محمود بين أدوارهم التاريخية وواجباتهم الوطنية، كل ذلك التوظيف والتصعيد والترميز جرى ويجري تحت نظر وعين ومباركة الرئيس أردوغان الذي كان أبرز الحاضرين والمصفقين لكل تكل الرسائل المباشرة وغير المباشرة للداخل المحلي وللخارج الدولي.
استمر أردوغان في هجماته المضادة حين قام -مؤخراً- بدعم مباشر وصريح لفيلم سينمائي تركي ياباني مشترك بعنوان "أرطغرل1890" تدور أحداثه حول قصتين تاريخيتين حقيقيتين تظهر ترابط أقدار الشعبين التركي والياباني في إطار الصداقة والمودة والاحترام المتبادل، حفل تدشين الفيلم تم في أحد أكبر المراكز الثقافية في اسطنبول بمشاركة رئيس الوزراء التركي آنذاك- داوود أوغلوا والسفير الياباني لدى أنقرة وكبار المسئولين والفنانين الأتراك واليابانيين.
لم يقتصر تفوق أردوغان -الذي وصفته التايمز البريطانية في افتتاحيتها الأولى عقب الانقلاب الفاشل بـ "الشيطان" على الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل استطاع "السلطان" كما يصفه محبوه- احتراف لغة الفن إدراكاً منه بخطورة وفاعلية هذا السلاح في عملية الحفر المعرفي وثقب الذاكرة، فتارة يستخدمها لهجمات مضادة، وتارة كضربات استباقية، وتارة لنسج علاقة، والأكثر ذكاء -باعتقادي- هو مواجهة الخصم بالمتاح من أدواته وتجييّرها لتكون أداة طيعة في تحقيق الرسالة وإصابة الهدف، الممثل الشهير "أنجين آلتان دوزياتان" الذي مثل شخصية "الغازي أرطغرل" له أدوار في مسلسلات أخرى لا تتوافق ولا تليق! وعلى الرغم من ذلك استطاع القائمون على المسلسل من استخدامه والعبور من خلاله.
لقد أدرك الإسلاميون -الترك- التأثير الحقيقي للدراما ببعديها الفكري والمجتمعي في صناعة الوعي وقولبة الفكر، وتعاملوا معها بالقوة والاقتدار، في المقابل لا زال الإسلاميون -العرب- متأخرين عن الركب، يعيشون حالة مزمنة من التشظي الفكري والعجز الفني والسبات الشتوي، باعتقادي ما يحتاجه الإسلاميون -العرب- لتجاوز أزمتهم الإعلامية الحالية هو أمر بسيط جداً، وهو الارتشاف قليلاً من جسارة "الشيطان" والاغتراف كثيراً من وعي "السلطان".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باسل الدبعي (مدونات الجزيرة)