نقصد بالفراغ الفكري Le Vide Intellectuel، تلك الحالة التي يمرّ بها الإنسان غالباً في فترة طفولته وشبابه؛ هذه الفترة التي قد تمتدّ إلى مرحلة الشيخوخة وحتى الممات، وهي حالةٌ من الجهل L’ignorance، تشمل باب العقيدة الدينيّة، حيث أنه ليس من الضروري أن يكون الإنسانُ أميّاً لا يفقه شيئاً ولا يعرف القراءة والكتابة، إنما قد تجده ذا تخصّصٍ مرموقٍ كمهندسٍ واسع الاطّلاع بالعلوم الهندسيّة، أو طبيباً متخصّصاً في علوم الطبّ، أو بيولوجيّاً، أو فيزيائيّاً، أو اقتصاديّاً؛ لكن حينما تحاوره عن أمور دينه لا تجده يفقه أركانه وأبجديّاته، أو في أحسن الأحوال يُحصّل ما يُعلم من الدّين بالضرورة، ولا يتعدّاه إلى تعمّقٍ يقيه النظريّات المنحرفة، والمذاهب الهدّامة؛ حتّى إن جلس في مجلسِ ذكرٍ وتدارسٍ في عقيقةٍ أو وليمةٍ أو مناسبةٍ، لا تجده يُساهم بكلمةٍ، ولا رأيٍ، ولا مداخلةٍ، أو لو جلسَ في خطبة جمعةٍ تراه وكأنّه يسمع لأوّل مرّةٍ ما يقوله الخطيب، ويمرّ عليه حديثٌ أو آيةٌ قرآنيّةٌ قد يسمعها لأوّل مرّةٍ نظراً لتفريطه في العلم الشّرعيّ.
أما إن أراد قراءةَ كتابٍ فكريٍّ تجده قارئاً له بلغةٍ أجنبيّةٍ، لكاتبٍ غير مسلمٍ، فيتبنّى أفكار الكاتب ويتابعها في كلّ شيءٍ بل في أيّ شيءٍ! وإن كانت تلك الأفكار في حقيقتها تناقض دينه وعقيدته، وهو شيءٌ طبيعيُّ فهو لا يعرف منهما إلا القليل، والمرء عدوٌّ لما يجهله .
ومن هنا تتجلّى خطورة الفراغ الفكريّ الذي ينتج عنه في عديدٍ من الأحيانِ إلحادٌ وكفرٌ، أو في أحسن الأحوال عقيدةٌ ممسوخةٌ ضلالاتها أكثر من حقّها ! وكثيرٌ من الملاحدة ممن حاورناهم من الذين كانوا ذوي خلفيّاتٍ إسلاميّةٍ، تجدهم مفتقرين للبنى التحتيّة العلميّة، والأركان المنطقيّة القويمة، والمنهجيّة الإسلاميّة السليمة؛ التي يستمدّها الشخص من القرآن والسّنة، وتواليف العلماء الأفذاذ، والفطاحلة الكبار، وهنا الفرق المنهجيّ بين من اكتسب نوعاً من التحصين الذاتيّ الثقافيّ Bouclier auto culurel ، وبين أصحاب الفراغ الفكريّ، فالأوائل قد استعملوا تلقيحاً Vaccination، ضد كل الأمراض الفكريّة المنتشرة، التي يبثّها الغرب في كتبه وأدبيّاته، وأجهزته الإعلاميّة من وثائقيّاتٍ وأفلام وفنونٍ، فما أن تأتي فكرةٌ مناقضةٌ حتّى ترتطم بذلك الجدار العازل، وإن تسرّبت على حين غفلةٍ يعلن الجهاز المناعاتيّ Système immunitaire ، حالة الطّوارئ، فيقتفي أثر الفيروس أو الجرثومة فيقتلعها ويبيدها، وقل إن شئتَ إن الأمر أشبه بغربالٍ، يسرّب النّظيف ويمنع النّجس والوسخ من المرور.
إن مكافحة الإلحاد، هو صيرورةٌ عمليّةٌ تبدأ منذ الطفولة، لمن فقه الأمور على حقيقتها، أو على أقلّ تقديرٍ منذ اللحظة التي يعي فيها الإنسان خطر الخواء الفكريّ، فيبدأ بتشييد حصنه، وسدّ فراغات عقله . يقول الدكتور عبد الحليم عويس : " ولئن كانت عوامل التجزؤ عديدة ورهيبة، فإنّ هذه العوامل لا تضلّل الأمّة إلا حين تعاني من فراغٍ فكريٍّ، وفقرٍ إلى مجموعة القيم، التي تغنيها بدرايةٍ سليمةٍ، مطمئنّة عن حقيقة كلّ من الكون، والإنسان والحياة، إذ من شأن مثل هذا الفراغ أن يغدو هدفاً لمطامع أولي الدّعوات الهدّامة، التي تصطنع المبادئ والقيم لبلوغ أمانيها وأغراضها " -1-
فالعالم اليوم؛ يشهد فوضى فكريّة، وتعدّد مذاهب الباطل، كلّ يدعو لباطله مصداقاً لحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً ثم قال : هذا سبيل الله. ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه سبل الشيطان، متفرّقة على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } ) رواه أحمد.
والإنسان الإسفنجيّ بمفهوم الإمام ابن تيميّة هو ذاك صاحب الفراغ الفكريّ، وهذا المفهوم بمعناه عرفه السّلف وفقهوه وأدركوا خطورته، يقول الإمام : " ولا يكن قلبك مثل الإسفنجة يتشرّب كل شيء، بل اجعله مثل الزجاجة ترى الحقائق من ورائها ولا يدخلها شيء، يأخذ الصّالح ويترك الفاسد " -2-
إن الزجاجة التي ذكرها ابن تيميّة، هي ما قصدناه بالتحصين الذّاتي للإنسان، في ظلّ الصراع الفكريّ الدّائر بين الأمم بعضها البعض من جهة، وبين الأمة الإسلامية والغربية من جهة ثانية.
وبالطّبع فإن لهذا الفراغ الفكري أسباباً متنوّعةً ومتعدّدةً، أطرحها أمامك أيها القارئ مسلماً كنتَ أو غير مسلمٍ، بغيةَ الوعي بها وتجنّبها، وتقطع أسبابها إن كنتَ ضالاًّ تائهاً، فتعمل على إصلاح الخلل، عسى أن تعيش وعائلتك في سعادة، وتحققّ الغاية من خلقك، وتفوز برضى الباري عنك :
هفوات التنشئة الأسريّة:
وبيان ذلك أنّ الوالدين يغفلان الجانب الدينيّ للطفل، وقد تجدهما لا يستطيعان الإجابة عن مختلف أسئلته حول الدين والحياة، والكون، والله، والإنسان، ومختلف الأسئلةِ الوجوديّة التي يبدأ الطفل بطرحها ! ويخطئ الوالدان حينما تجدهما يركّزان أن يجيد الطفل موادّاً مثل الرياضيات، والعلوم الطّبيعيّة، والانجليزيّة أو الفرنسية، ويُغفلان موادّاً مثل العربيّة والتّربية الإسلاميّة. بل قد تجد الطامّة الكبرى في إدخال أطفالهم إلى مدارس أجنبيّة لا تُدرّس لغة القرآن ولا دين الإسلام، فيصبح الطفل رجلا ذا ثقافةٍ غربيّةٍ في جسدٍ عربيٍّ !
والتّكوين المدرسيّ وحده لا يكفي لكي يكتسب المتعلِّم ما نريد له أن يكتسبه من تحصينٍ فكريٍّ، بل من الأخطاء الشّائعة أن تجد الآباء يسمحون لأطفالهم مشاهدة الرسوم المتحرّكة الغربيّة والروايات الأجنبيّة، وما ينمّي خياله لكن لا يختارون لهم إلى جانب ذلك ما ينفع الطفل في واقعه، وما ينمّي دينه ويمدّد له فكره، كقصص السيرة النبويّة للأطفال، وقصص الأنبياء، ومختلف المؤلّفات التي تهدف إلى تحصين فلذات أكبادنا من التغريب. وهذا كله سببٌ من أسباب الفراغ الفكريّ الذي قد يلتصق بالطّفل إلى بلوغه، فالإنسان دائماً ما يجنح إلى قراءة ما ألِفه وتربّى عليه، ونشأ في ظلّه. يقول الدكتور حسن حمد النيل : " تتسبّب كثير من الأسر المعاصرة في صناعة خواءٍ فكريٍّ كبيرٍ لدى أولادها من البنين والبنات، خاصّةً إن لم تحسن التربية والرّعاية لهم، وحفظهم وتثبيتهم على أسس علميّةٍ وإسلامية صحيّةٍ، في الوقت الذي كثرت فيه الاختلافات الفكريّة والاضطرابات المنهجيّة .. كما يتسبّب انتشار الجهل والأمية داخل الأسرة في هذا الخواء الفكريّ عند الأولاد، وفاقد الشيء لا يعطيه ."-3-
من تربّى على اللّهو عاش حياة اللّهو :
فالصبيّ أو الشابّ الذي لم ينشأ على طاعة الله، ويُبصر أباه أو أمّه وأصدقائه يعيشون حياة السهرات والحفلات، بل والمعاصي من شرب الخمور ومقارفة الفاحشة، تجده يفني وقت فراغه في ذلك، فما أن ينهي دراسته الجامعية ودوامها، حتى ينصرف إلى اللهو، من جلوس في المقاهي، ومشاهدة للمباريات المختلفة، ثم إلى سهرةٍ، ثم إلى موبقةٍ، ثم إلى نومةٍ، ثم ينهض إلى عمله أو دراسته وهكذا حتى يبقى في هذا الروتين القاتل.
وكما قال الشاعر:
والوقت أنفس ما عنيتَ بحفظه * وأراه أسهل ما عليك يضيع -4-
ومن هنا كان المأثور عن السلف : " نفسك إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل" -5-
أو حتى تجد الإنسان مستقيماً لا يمارس الموبقات، لكن يأخذه عمله، وحياته الزوجية، ومشاغله الدنيوية، عن تخصيص وقتٍ لبناء تحصينه الفكري، وقد تمر عليه الشبهات عرضاً فيتشرب بعضاً منها، فتكون سبباً في فساد دينه.
القدوة الفكرية السيئة:
فيبحث الشاب مبهوراً عن قدوةٍ فكرية يقلدها في كل شيءٍ، بل في أي شيءٍ، خاصةً إن كانت هذه القدوة أستاذاً جامعياً مقرباً منه، فيأمره بمجموعة من الكتب التي قد تكون لادينيّةً. وهو من التّشريب الفكريٍّ الذي يستعمله الأساتذة الملحدون في تعليمهم لطلبتنا، فيوصونهم بقراءة كتب نتشه وفيورباخ وماركس .. المعروفين بإلحادهم وأسلوبهم السّلس في عرضه، دونما منهجيّةٍ قويمةٍ في الاطّلاع على المذاهب الفكريّة، ومثلهم في ذلك كمثل أن يلقي الرجل تلميذه إلى بحرٍ لجيٍّ متلاطم الأمواج، والتلميذ لا يحسن العوم ولا يُتقنُ فنّ السباحة ! فيحصل أن يغرق الأخير في بحر الإلحاد ومستنقعاته النّتنة بسهولةٍ، ويتشرّب أفكارهم، فيصبحُ عوضَ أن تخرّجَ لنا الجامعاتُ مسلمين يدافعون عن معتقدات الأمّة ويساهمونَ في رقيّها وحضارتها، تُخرّجُ لنا جيلا من معاولِ الهدم تنخر جسد الأمّة، إلا من رحمَ ربّك : " فالخاوي فكريّاً، سريع التأثّر بأيّ فكرٍ يكونُ قويّاً في عرضه، وجذّاباً في مظهره، ولو كان فكراً ضالاَّ، والمواقع على الإنترنت تحمل آلاف الآراء والأفكار الضّالة .. كما ويصاب الخاوي فكريّاً بعدم وجود مرجعيّةٍ علميّةٍ، يمكن الرجوع إليها إذا ما واجهته مسألةٌ علميّة أو أزمةٌ فكريّة" -6-
وهذا الطّالبُ الذي يواجه أزمةً فكريّةً قد يسأل قدوته الملحدة الذي سيزيد دون شكٍّ في ضلاله وحيرته.
إنّ الخير كلّ الخير في الاستقامة على الطّريقة، والشرّ كل الشرّ التهوين من أمر الفراغ الفكريّ، واستسهاله، وتالله لو أنّ الإنسان استمسك بكتاب الله لضمنَ له ذلك تحصيناً فكريّاً ما بعده تحصينٌ، مصداقاً لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( قد تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله) رواه مسلم.
وفي حديثٍ آخر : ( اعقلوا أيها الناس قولي فقد بلّغت، وقد تركت فيكم أيها النّاس ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا، كتاب الله وسنّة نبيّه ) رواه ابن حزم -7-
فهذه أنوار الله مبسوطةٌ محفوظةٌ، فافتح قلبك لها، وطالعها، وتدبّرها، وانهل من حكمتها فـ { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } ( الإسراء: 39).
هوامش المقال
-1- ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، ص : 188.
-2- مقتطفة من وصيّة ابن تيمية لتلميذه ابن القيّم، مع اختلاف في الألفاظ لكثرة تكرارها من الإمام، راجع مفتاح دار السعادة : 1/443.
-3- عن مقال " الخواء الفكري وخطورته على الشباب" د. حسن حمد الليل، مجلة حراء ص:61.
-4- من شعر ابن هبيرة.
-5- رواها الشافعي وراجع : الجواب الكافي لابن القيم، فصل الخطرة.
-6- عن مقال " الخواء الفكري وخطورته على الشباب" د. حسن حمد الليل، مجلة حراء ص:62.
-7- أصول الأحكام، 2/251.