من أصول التربية التي اتفق عليها كل المتخصصين في هذا المجال التربية بالقدوة، وقد عدها الأكثرون ـ إن لم يكن الجميع ـ في مقدمة الوسائل والأساليب التربوية وأعظمها أثرا في نفس المربى وأكثرها فعالية.
واتفقت كلمة المخلصين منهم على أن الأمم التي تريد النهوض والتقدم والرقي لابد وأن تتخير القدوات التي تقدم لأبنائها، سواء في مناهج التعليم في المدارس والجامعات، أو التي تعرض من خلال الشاشات في الأفلام والمسلسلات، أو التي تناقش من خلال المنتديات والبحوث العلمية حتى والشهادات الجامعية والدراسات العليا.. وأهم من هذا كله القدوات الظاهرة الواقعية التي يتعامل معها الشباب في شتى المجالات ومختلف المناسبات.. كل ذلك ينبغي أن يختار بعناية فائقة ومن خلال خطط مدروسة ومنهجية محسوبة.
أما إذا أرادت أمة ما أن تعيش بلا قيمة ولا دور ولا أثر، وألا يكون لها ذكر بين الأمم، فأول سبل السقوط والتردي هو اختيار قدوات ممسوخة تصلح لهذه الهمة المنكوسة وتقعد بها عن السعي إلى المعالي والمكارم، فــ
على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم
ومن ثم إذا أردت أن تعرف قيمة أي أمة فانظر إلى ما تقدمه لأبنائها من قدوات ليكونوا مثلا عليا لهم، يسيرون على خطاهم، ويتمثلون بأخلاقهم وأعمالهم، ويسعون ليكونوا أمثالهم.
إن واقع أمتنا الإسلامية في عصورها المتأخرة يدل على أنها تنكبت طريق العز والرفعة، وتركت الريادة والسيادة لغيرها بعد أن سادت الدنيا قرونا طويلة، وكان من أهم دلالات هذا السقوط والتردي والتأخر والتنكب للطريق القويم ـ وهو في ذات الوقت من أهم أسبابه ـ تغيير مفهوم القدوة عند القابضين على زمام الأمور فيها، وعند المتحكمين فيما يعرض على الناس منها.
إن نظرة سريعة لحال الشباب المسلم بنيي وبنات، والنظر في ملابسهم وقصات شعورهم، وجديد الموضة عندهم، وحال أخلاقهم والتمعن في دراسة ظاهرهم كافية لتدلك على ما في قلوبهم.
وإن استبيانا سريعا حول من تحب أن تكون؟ أو من هو قدوتك الأولى؟ أو من هو مثلك الأعلى؟ يكفي لفضح المستوى الذي وصل إليه حال أبنائنا وشبابنا وبناتنا. ومدى النجاح الذي حققه الساعون في تضليل الأمة وإسقاطها، والمحاربون لدين الله وشرعه.
مسوخ لا قيمة لها
بالتفتيش في كتب الدراسة في بلاد مسلمة كثيرة، والمتابعة لشاشاتها المرئية وقنواتها الفضائية، وبرامجها الحوارية ومجلاتها وصحفها وكل ما يصل إلى يد الفئة المستهدفة فيها، نجد أن جل ـ أو بالأحرى كل ـ ما يقدم على أنه قدوة مسوخ لا قيمة لها حقيقية: لا حضارية ولا فكرية ولا دينية ولا ثقافية، وإنما هم أهل اللهو واللعب، وإنما أمة تلهو وتلعب فاختارت لأبنائها قدوات على قدر حالها. إما لاعبون وإما ممثلون وإما مغنون ومن على هذه الشاكلة (تارة من داخل بلادها وتارة مستوردون من غير بلادها وعلى غير دينها وخلاف ثقافتها وغاياتها)، وصارت هذه ثقافة مجتمعية وحقيقة اجتماعية أن اللاعب، أو الفنان ـ الممثل والراقصة والمغني وأشباههم ـ أعلى قدرا وأكثر هيبة ومحبة في قلوب الناشئة من المخترع المبدع أو أستاذ الجامعة أو المدرس مربي الأجيال ـ فضلا عمن هو دونهم، أما من جهة الدخل المادي فلا مقارنة تذكر، حتى صارت أمنية كل شاب أن يكون لاعبا أو لاهيا، ولك أن تتصور أمة أو بلدة هذا هو أقصى ما يتمناه ويسعى له أبناؤها وجيلها الناشئ.
إن النهوض بأي أمة لابد أن يسبقه نهوض بهمم أبنائها، وعلو في سقف آمالهم وأمنياتهم، وتحفيز حقيقي وسعي حثيث للأخذ بهم إلى طلب المعالي وفعل أهل المروءات، ولا يتأتى هذا إلا إذا وجهت كل وسائل التربية والتوجيه إلى هذا الهدف السامي، ويأتي في مقدمة وسائل بلوغ هذا الهدف إعادة النظر في اختيار القدوات المقدمة لهم، والحمد لله أن تاريخ هذه الأمة المجيد ينضح بأمثال هؤلاء العظام الذين يصلح كل واحد منهم أن يكون أمة بذاته فضلا عن أن يكون قدوة من القدوات.
صور من أصحاب الرسوخ وأهل الهمم
إن أعلى قدوة لنا على الإطلاق كمسلمين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا أن نقتدي به ونتأسى بأخلاقه وفعاله وكل أحواله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}.
ثم يأتي من بعده إخوانه من المرسلين والنبيين الذين أمره الله أن يتخذ منهم قدوة له وأسوة، وأن يهتدي بهداهم، على رغم أنه أفضلهم وأعظمهم ،وذلك تنبيها على أهمية دور القدوات، قال تعالى بعد أن ذكر بعض أسمائهم: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم ربى لنا رجالا، وصنع منهم مصابيح هداية تصلح أن تنير طريق كل من اهتدى بها وسار على دربها، واقتفى آثارها، وهم بدورهم أخرجوا لنا أمثالهم {فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه}. ولك أن تتخيل كيف كان هؤلاء الكبار بعد أن تقرأ هذين المثلين لبعض صغار السن فيهم.
الطفل الإمام
روى الإمام البخاري في صحيحه عن عمرو بن عبسة قال: (كنا بماءٍ ممرِّ الناسِ، وكان يمر بنا الركبانُ فنسألهم: ما للناسِ، ما للناسِ؟ ما هذا الرجلُ؟ فيقولون: يزعم أن اللهَ أرسله، أوحى إليه. أو: أوحى اللهُ بكذا، فكنتُ أحفظُ ذلك الكلامَ، وكأنما يقرُّ في صدري، وكانت العربُ تلوم بإسلامهم الفتحَ، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيٌّ صادقٌ، فلما كانت وقعةُ أهلِ الفتحِ، بادر كلُّ قومٍ بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامِهم، فلما قدم قال: جئتُكم واللهِ من عند النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حقًّا، فقال: (صلوا صلاةَ كذا في حين كذا، وصلُّوا كذا في حين كذا، فإذا حضرتِ الصلاةُ فلْيؤذِّن أحدُكم، وليؤمكم أكثرُكم قرآنًا). فنظروا فلم يكن أحد أكثرَ قرآنًا مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم، وأنا ابن ستِّ أو سبعِ سنين).
فكان هذا الإمام الصغير يصلي بقومه إماما لأنه كان أحفظهم لكتاب الله.
قال الشافعي رحمه الله: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين..
وأما أبناؤنا في هذا السن فيشاهدون ميكي ماوس، وكارتون القط والفأر، وأشباهها.
ضرورة
إننا نحتاج أن نعرض على أبنائنا بطولات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبادتهم، وطرائق فكرهم، وعلو هممهم، ومدى ما حققوه في زمان بسيط جدا لدين الله تعالى.
نعرض قدوات صغار الصحابة كابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت الذي تعلم لغة اليهود في خمسة عشر يوما وأتقنها حتى كان يترجم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كتبهم ويترجم بينه وبين رسلهم ترجمة فورية.
نحتاج أن نعرض للشباب قدوات أمثالهم مثل أسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، ومحمد بن الثقفي، ومحمد الفاتح.. وكلهم كانوا قادة جيوش وفتوح كبرى في التاريخ وهم أبناء العشرين، دونها قليلا أو فوقها قليلا.
حتى الكبار يحتاجون إلى قدوات كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الكرام، ومن بعدهم من التابعين كمالك والشافعي وأحمد والسفيانين والأوزاعي والبخاري ومسلم والحفاظ الكبار، وابن تيمية والعز بن عبد السلام والذهبي ونظرائه.. في طريق طويل يصعب معه العد ويحتار المرء في الاختيار من الكثرة والوفرة.
أليس من الظلم لأبناء الإسلام أن يترك هؤلاء الكبار الكرام، وهؤلاء القدوات الأعلام، وأهل الرسوخ في الإسلام، لنقدم لهم هذه القدوات من المسوخ والأقزام؟