"عِشْ رجباً.. ترى عجباً" مثلٌ جاهلي مضروب يحكي تحوّلات الدهر وتقلّبات الزمن، وكثرة العجائب وأنواع الغرائب التي تستقبلنا بها الأيّام، ولعلّه خير مثلٍ يمكن استعارته عند الحديث عن عجائب شهر رجب وما استحدث الناس فيه.
ولئن كان موطن العجب عند أهل الجاهليّة متعلّق بعجيب صنعِ الله في الظالمين والمعتدين –كما هو مرويٌّ في كتب التاريخ- فمثارُ العجب عندنا في بعض العجائب والغرائب المخترعة من الناس لعباداتٍ لم يثبت فيها شرع، ولم يرد في شأنها نصّ.
قداسةٌ لا تُنكر
لا شك أن شهر رجبٍ من حيث الأصل هو أحد الأشهر الحرم التي أمرَ الله تعالى برعاية حرمتها وتعظيمها، كما قال الله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} (التوبة:36)، والمعنى أن هذا الشهر الكريم ينبغي أن يُعظّم بالإقبال على الله تعالى بمختلف أنواع الطاعات، والأهم من ذلك: ترك المعاصي بجميع أنواعها، الخاصّة والعامّة، القوليّة والفعليّة، ما تعلّق منها بحقوق الله أو بحقوق العباد، وهذا هو الظلم المنصوص عليه في الآية: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما يقول ابن كثير في تفسيره.
فهذا هو القدر المحدّد من "التعظيم" الذي يمكن فهمه من النصوص، أن يكون التعظيم إقبالاً عامّاً على الله تعالى، وتركاً للمعاصي بقدرِ المستطاع، فلا يجوز تجاوز هذا الفهم إلى ابتكارِ جملةٍ من العبادات المخصّصة المتكرّرة تحت دعوى تعظيم الشهر.
كما ينبغي أن نلاحظ قضيّة مهمّة هنا كذلك، وهي أن الله تعالى قد يرفع مكانة زمانٍ معيّن ويخصّه بالعبادات، كما هو الحال في رمضان وتخصيصِه بالصيام، والجمعة بالخطبة، وقد يفضّل الله زماناً ولا يخصّه بعمل، فيُنصح الناس بعمل الصالحات على وجه العموم، دون أن يعتقد المرء فضيلة عبادةٍ معيّنة ويدعو الناس إليها.
حتى نفهم معنى التخصيص
قد لا يفهم البعض إنكار العلماء لمعنى تخصيص شهر رجب لعبادة من العبادات، وقد نسمع من البعض قولَهم: كيف تنهوْن عن العمل الصالح؟ ولا شك أن أحداً لا يعني ترك العمل بالكليّة هرباً من الابتداع في الدين! ولا أحد يقول بذلك بل هو مناقضٌ للمعنى المقرّر في الآية، إنما القضيّة في اعتقادٍ خاص لعملٍ خاص تُظنُّ فضيلتُه في هذا الشهر المعظّم، فيُقال مثلاً باستحباب العمرة في رجب وتُسمى بالعمرة الرجبيّة، أو فضيلة صيامٍ خاصّ في توقيت معيّن، فضلاً عن إحياء ليالٍ خاصّةٍ منه أو الاحتفال فيها كما شاع في بعض البلدان، فالنكير هو في هذا الاعتقاد المتعلّق بفضيلة هذا التخصيص، إذ لا بد من الدليل الصحيح على هذا التخصيص.
قال الحافظ ابن حجر: "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه.. حديث صحيح يصلح للحجة".
أنواع من البدع الرجبيّة
تتابع الناس للأسف على ألوانٍ من العبادات المبتدعة في هذا الشهر المعظّم، فمن ذلك: اعتياد تخصيصهِ بشيءٍ من الصيام أو الاعتكاف، ولم يرد في ذلك حديثٌ صحيح يُعتمد عليه، بل ولا ضعيفٍ يمكن الاستئناس به من باب فضائل الأعمال، بل عامة الأحاديث الواردة في ذلك من الأحاديث الموضوعة أو المكذوبة، كما نصّ على ذلك المحقّقون من أولوا العلم.
ومن البدع الرجبيّة، عمرة رجب واعتقاد فضيلتِها، مع أنّه لا مزيّة للعمرة في هذا الشهر عن غيرِه، ولم يأتِ نصٌّ يحثّ الناس على قصد العمرةِ في هذا الشهر، وقد ذكر علي بن إبراهيم العطار في القرن الثامن اعتياد الناس كثرة الاعتمار في رجب، ثم قال: "وهذا مما لا أعلم له أصلا ".
ومن البدع العجيبة، صلاةٌ تسمّى بصلاة الرغائب، وهي صلاةٌ غريبة ومغايرة لهيئة الصلاة التي اعتاد الناس عليها، وتشمل العديد من الأذكار المستحدثة، وفي فضيلتها ينسبون حديثاً موضوعاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيه :( والذي نفسي بيده،ما من عبد ولا أَمَة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه،ولو كانت مثل زبد البحر، وعدد الرمل،ووزن الجبال، وورق الأشجار،ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار).
والحق أن هذه الصلاة باطلة، نصّ علماء الحديث على بطلان الحديث المتعلّق بها، ولم يُنقل عن السلف فعلها، بل شدّد فيها الإمام النووي حتى قال: "هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات، فيتعين تركها والإعراض عنها و إنكارها على فاعلها ".
ومن جملة البدع التي اشتُهر بها هذا الشهر: التصدّق عن الموتى، وتخصيص زيارة المقابر، وصلاةٌ تسمّى بصلاة أم داود وتكون في منتصف الشهر، والاحتفال بليلة السابع والعشرين من رجب باعتبار أنها ليلة الإسراء والعراج، فضلاً عن الكثير من الأذكار والأوراد التي تُقال ولم يُنزل الله بها من سلطان.
وأخيراً: فتعظيم الله تعالى إنما يكون باتّباع شرعه، والانقياد لهدي نبيّه، ولا يكون في اللهاث وراء سراب الأعمال المحدثة التي ليس لها عند الله مكانة ولا قيمة: {كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء} (النور:39).