القيمة هي من تصنع الإنسان داخل الوطن وتصنع الوطن للإنسان".هي معايير ثابتة للشعوب تحدد بها مستقبلها بل تنتقي بها من تاريخها ما يتماشى مع مقدراتها..." القيمة إما أن تصنع الإنسان أو يصنعها الإنسان"وفي الحقيقة الجملتان على الرغم من أنهما تبدوان متشابهين إلا أن الجملة الثانية والتي تضع القيمة في موضع الاختيار بين كونها معيارا ثابتا أو نحتا يشكله البشر كيفما شاؤوا هي من أخطر الأفكار التي قد تحارب بها الدول.
فالشعوب الخضوعة والمحتلة فقط هي من تجلس تنتظرمن يحدد لها القيمة.
وتضع نفسها في خياري الجملة الثانية لتجعل الدول المسيطرة تحركها كالدمى وتنتقي لها ما تستطيع من خلاله أن تدس السم داخل برميل العسل.
فتحدد لها قيم حسنة وتزخرفها بأخرى باطلة وتقدمها على طبق من فضة لهؤلاء المنتظرين ولهؤلاء المتبرئين من تاريخهم وحضارتهم وثقافتهم ولغتهم بل من ذواتهم!
ومن خلال منظومة القيم الجديدة يتداخل الحق والباطل ليصنع الدَخَن على أمهر ما يكون ..تعلو قيمة وتدنو أخرى والفاعل الوحيد والمتهم الأول في تحديد سعر هذه القيمة هي "إرادة الشعوب" ووعيهم بذلك.
إنها نفس لعبة إبليس بعدما انتهى من فضيحته قائلا: {ما أنا بمصرخكم} هؤلاء الخانعون هم من حددوا قيمة الإعلام حين كانوا أذنه الصاغية وجمهوره المحشود، وهم من حددوا قيمة الفن والفنانين حين سمحوا لهم بهذا البذخ والتبذير وأغلقوا أفواههم وفتحوا لهم بيوتهم، ولو أغلقت الشاشات في شهر رمضان فقط لأهدرنا قيمة زائفة من هذه القيم التي تهدد مجتمعاتنا.
فالقصّاص والمشخصاتية ماذا كانوا قديما وكيف صاروا حديثا؟!الأزياء والموضة والديكور والزينة والأساسات في مجتمع شرقي يعشق الزينة والزخرفة والبهرجة لتعلو خرافة تكاليف الزواج والسكن والملبس والمتنزهات حتى تجد من يرتضي لنفسه أن يبيت مدينا مهينا ولا يبيت بدون نزهة على الشاطئ!
الأشخاص والأمم والقيادات والمرجعيات والحضارات مسميات من ورائها قيم يعليها من يريد ويخفضها من يريد ، فمن الذي أعلى قيمة الحضارة الفرعونية حضارة المقابر وأخفض من شأن حضارة العلوم والنور؟!
وحتى الأمكنة والشوارع والأحياء والمواسم والمراسم من ورائها قيم. وحتى الصدق والأمانة والأخلاق قد تعلوا في زمن ويعلوا نقيضها في زمن آخر ، ومما يدل على ذلك استقباح قوم لوط لسموه وطهارته بقولهم: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[سورة النمل: 56].
فهؤلاء الخبيثون انقلبت عندهم القيمة حتى أصبحت الفضيلة مستنكرة يجهر بإنكارها وكأنها أصبحت هي الرذيلة.
واهدار القيمة يكمن في الانسياق حول خرافات مصبوبة في قوالب لا حاجة ولا طاقة لنا بها.
ويرتبط تحديد القيمة بعامل مهم وهو "وحدة الرأي حول محور الحق"، وهذا من أخطر الآفات التي ابتليت بالحرمان منها أمة الإسلام في هذا العصر، فإعجاب كل ذي رأي برأيه جعل قيمة تعلو وأخرى تزول ، فأصحاب الصوت العالي وكذلك كل من يمتلك منبرا صاخبا هو الفائز في هذه المعركة .
لقد أصبحت الآراء تستقى من المزاد العلني بعد أن كانت تتخذ من منابر المساجد ،على السفلة، وتكلم الرويبضة في أمر العامة حتى تخرصوا بالقول في العقيدة ،والحديث، واستمعت العامة بل أصغت وسجدت لهم.
والفضل كل الفضل فيمن محقوا قيمة العلم والعلماء ،إما بالسخرية منهم أو بالدخول في صفوفهم وهم لا يستحقون أن يكونوا كذلك.
إن اتحاد الأمة لن يأتي إلا بهدم أصنام القيم الزائفة صنما بعد صنم ، ومن ها هنا أولا من داخل تلك المضغة التي تحرك كل جسد نابض وتحرك جسد الأمة النابض.
وباكتشاف قيمة القيمة وإعادة رؤية الصور المقلوبة على الوجه الصحيح، بالاجتهاد والبحث عن ينبوع شباب هذه الأمة وسر حياتها ومكامن سؤددها وتلك الأشياء التي تميزها حصريا عن بقية الأمم.
ولكن هذه المشاعر لن تكون إلا "بالوعي والتذكير والاعتراف" والوعي بمقدرات الأمة وتذكر أن لهذه الأمة قيما خالدة والاعتراف بهذه القيم وإثرائها والبحث عن مكامنها وأسرارها.
- الكاتب:
رحاب حسان - التصنيف:
ثقافة و فكر