لا شك أن عصرنا اليوم لكثرة مشاغله ومتاعبه يحتاج إلى إيجاد حلول شرعية وضمانات تكفل حماية الأفراد من الحلول المبطئة. والتقنين قد عم اليوم أرجاء الدنيا ولا توجد دولة إلا وقد حددت الأحكام التي يجب على القضاء تطبيقها، وعدم الخروج عليها. وقد أدى هذا الأمر إلى أن لجأت أغلب الدول إلى قوانين الغرب تستمد منها ما رأى المسئولون نقصانه في بلادهم، وقصور فقهائهم ورجالهم عن محاولة سد هذه الثغرة التي تزداد حاجتها يوما بعد يومٍ، وقد جاءت تلك التشريعات مخالفة لأحكام الشرع الحنيف وخاصة الجانب الجنائي منها.
ونحن أمة الإسلام كأية أمة أخرى نريد أن يكون لنا تشريع قوي مهاب مستنبط من ديننا مكتوب ومعروف لدى القضاة والخصوم على حد سواء، وسدًّا للذريعة والاستغناء عن الشرائع الأخرى، لا سيما وأن التقنين أصبح أمرا ملحا، وإلا أنزلت مكانه قوانين أخرى.
..
ومما هو جدير بالذكر أن الشريعة الإسلامية غنية بثروات هائلة، تراعي مصالح الناس، وتستطيع التكيف مع كل عصر نعيشه. أما اليوم فقد أصبحت بلاد المسلمين نحو بلاد الغرب في العادات والتقاليد، بل وحتى في التشريع ووضع الأنظمة. ونسيان الأمة ماضيها وحاضرها على حد سواء، .. وندرة المؤهلين حتى أصبحت آخر صيحة تصدر عنهم "الاجتهاد الجماعي، وتأسيس المجامع الفقهية". فإن كل هذه الظروف وغيرها من مستجدات اليوم تدعو الغيورين إلى حفظ هوية الأمة وهيبتها على الأقل في مجال التشريع، وجعل القضاء الذي يتحاكمون إليه متداولًا عند القضاة وغيرهم.
مفهوم كلمتي القانون والتقنين:
كلمة القانون معناها الأصل مقياس الشيء وطريقه، وتجمع على قوانين بمعنى الأصول، ثم صارت تطلق على القاعدة كما تطلق على أمر كلي ينطبق على جميع جزئياته التي تعرف على أحكامها منه .
ويراد بكلمة القانون مجموعة القواعد التي تنظم حياة الأفراد ونشاطهم في جماعة مما يحقق الخير للفرد ويكفل التقدم للجماعة، ويجب على الجماعة احترام تلك القواعد وإلا فإن على السلطة العليا في تلك الجماعة إرغام الناس قسرًا على ذلك .
وكلمة القانون لم تكن معروفة عند فقهاء الإسلام كما هي معروفة اليوم، إلا أن ذلك لا يعني أنهم يجهلونها. يقول ابن تيمية عند رده على مخالفيه: "فتلك القواعد الفاسدة التي جعلوها قوانين – ثم إن هذه القوانين فيها ما هو صحيح لا ريب فيه".
وكما عنون الفقيه المالكي ابن جزي كتابه "قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية، وغير ذلك من علماء المسلمين.
أما كلمة التقنين فيقصد بها بوجه عام جمع الأحكام والقواعد التشريعية المتعلّقة بمجال من مجالات العلاقات الاجتماعية، وتبويبها وترتيبها وصياغتها بعبارات آمرة موجزة واضحة في بنود تسمّى "مواد ذات أرقام مسلسلة"، ثم إصدارها في صورة قانون أو نظام تفرضه الدولة، ويلتزم القضاة بتطبيقه بين الناس.
أو هو صياغة الفقه في صورة مواد قانونية مرتبة على غرار القوانين الحديثة من مدنية وجنائية وإدارية، وذلك لتكون منهجًا سهلًا محددًا يمكن أن يتقيد به القضاة، ويرجع إليه المحامون، ويتعامل على أساسه المواطنون.
وخلاصة المعنى: كلمة التقنين في النهاية ترجع إلى الترتيب والتبويب للفقه الإسلامي حتى يسهل للقضاة والمحامين والجمهور معرفة الحكم ضد قضية ما، أو لمصلحة قضية ما، على أن إلزام القضاة لحكم مُعين هو المعنى الأهم الذي تأخذ الكلمة منحاه.
تاريخ ظهور فكرة التقنين:
إن فكرة توحيد الأحكام الفقهية قديمة جدًا، يظهر ذلك جليًا في توحيد قراءة القرآن، وجمع القرآن، وجمع السنة النبوية الشريفة.
و يروى أن الخليفة أبا جعفر المنصور طلب من الإمام مالك عام 163هـ أن يضع كتابًا جامعًا مختارة أحكامه من أصول الشريعة الإسلامية ومصادرها مع مراعاة اليسر والسهولة. إذ قال: يا أبا عبد الله، ضع هذا العلم ودونه ودون منه كتابًا، وتجنب تشديدات عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ ابن مسعود. واقصد إلى أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الصحابة والتابعون –رضي الله عنهم- لتحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار. وتعهد إليه ألا يخالفوها، ولا يقضوا بسواها. إلا أن الإمام مالكًا قد تورّع وتواضع، ولم يكن يريد أن تكون هذه الفكرة قوة ملزمة فكان جوابه: "أصلح الله الأمير! إن أهل العراق لا يرضون بعلمنا ولا يرون في علمهم رأينا"
- كان رأي الإمام مالك: أن كل أهل بلد وناحية يمكن أن يكون لهم فقههم الخاص ولا ينبغي أن نحمل الأمة كلها على مذهب واحد.
وكان السبب المباشر لدعوة الخليفة إلى هذا الكتاب اتساع رقعة الدولة العباسية وأقاليمها، ذلك أن كل قوم يطبقون ما بقي لديهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاداتهم وتقاليدهم، فجاءت دعوة الخليفة لتوحيد الأحكام الشرعية كي يكون للدولة الإسلامية دستورٌ واحدٌ يستند إليه في جميع القضايا.
أما في عصر الدولة العثمانية لما رأى المسؤولون تشعب الأحكام وتفرقها في مؤلفات الفقهاء من مختلف المذاهب حتى أصبح إلزام القضاة بها أمرا صعبًا، والوصول إلى الحلول وتطبيقها فيما يعرض عليهم من أقضية غير ميسورة بل شاقة لأجل تراكم القضايا وبط ء الفصل فيها- أجمعوا هيئة من علماء الشريعة الإسلامية، وذلك في أواخر القرن الثالث الهجري لوضع كتاب يشمل أحكام المعاملات في مواد تسمى "مجلة الأحكام العدلية".
وفرغ العلماء منها، وقد أصبحت المجلة سارية المفعول منذ ذلك الوقت، كما شملت المجلة (1851) مادةً موزعةً على مقدمة وستة عشر كتابًا، في البيع والإيجارات، والكفالة، والحوالة، والرهن, والهبة، وغير ذلك من الأحكام. وهكذا كانت هذه المجلة محاولة ناجحة في تقنين الأحكام بكل ما يحمله التقنين من عناصر وخصائص.
وأتى بعد ذلك "الكتاب المعروف بالفتاوى الهندية أو الفتاوى العالمكيرية" على مذهب الإمام أبو حنيفة حيث قام بجمع هذه الفتاوى جماعة من علماء الهند، واشتمل هذا الكتاب العبادات والمعاملات. وكان رئيسهم الشيخ نظام برهانبوري بدعوة من السلطان أبي المُظفر محي الدين أو رنك. ثم جاء قدري باشا قدري باشا وألف مؤلفاته في هذا المجال مثل " مرشد الحيران" وقانون العدل والإنصاف" وكتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية". وتلته مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمؤلف أحمد بن عبد الله القاري حيث نشرت جريدة أم القرى عام1346هـ أن الملك عبد العزيز آل سعود يفكر بوضع مسودة مجلة على غرار مجلة الأحكام العدلية، وذلك لتوحيد القضاء في السعودية.
وقد ألف الشيخ القاري المجلة وتتكون من [2382] مادة أغلبها في المعاملات وهي مطبوعة ومتداولة بتحقيق د/ عبد الوهاب أبو سليمان ود/محمد إبراهيم أحمد علي، وطبعته شركة تهامة.
أهداف التقنين:
سهولة الرجوع إلى أحكام التقنين، ومراجعة الأحكام حيث إن كتب الفقه يكثر فيها الاختلاف، وهذا يسهل لغير المتخصص الاطلاع والاطمئنان بالحكم له أو عليه، وضبط الأحكام الشرعية، وبيان الراجح منها.
كما يُعد التقنين وسيلة لتوحيد الأئمة على حكم واحد مختار من بين الآراء الراجحة في الفقه الإسلامي، وحماية القضاة من التأثيرات الشخصية التي قد يتعرضون لها، والحفاظ على سمعة القضاة، وحفظ هيبتهم، وإبعاد الشكوك عنهم. كما أنه وسيلة لإشراف الدولة على سلامة تطبيق الفقه الإسلامي، وذلك عن طريق اختيار الأحكام الملائمة لها وإلزام القضاة جميعًا بالسير على مقتضاه، والتيسير لدراسة الفقه الإسلامي وتدريسه وشرحه ومقارنته بالمذاهب الفقهية الأخرى. كما أن عدم تقنين الفقه الإسلامي سيدفع حكام المسلمين إلى اقتباس القوانين الأجنبية؛ لتنظيم شؤون الدولة، والابتعاد عن تطبيق الشريعة الإسلامية. وهذه مضرة لا يدرؤها إلا تقنين الفقه الإسلامي، ومعاونة القضاة في أداء واجباتهم؛ للوصول إلى أحسن الحلول وأيسرها وأسرعها، وبذلك لا تتراكم القضايا، ولا يتأخر الفصل إلا بما توجب المصلحة تأخيره.
آثار التقنين
أما آثار التقنين فهي بالغة الأهمية:
إن التقنين الذي ندعو إليه هو التقنين المنشود المستمد من مصادر الشريعة الإسلامية وأصولها، فإن أي تقنين يصدر بهذه الكيفية فإنه يُعدُّ في أحكام الشريعة تنفيذ كل أمرٍ يحقق المصلحة العامة، كما أن التقنين سيجعل غالبية المتخاصمين يتوقعون إن لم يتأكدوا في كثيرٍ من الحالات ما سيحكم به القضاء. وبهذا سيكون التقنين عاملًا كبيرًا في تقليل الخصومات، وعدم تراكمها، وعدم إطالة المنازعات، وسيقضى على مشكلة تأجيل الحكم، وسيجعل التأجيل قاصرًا على مدة قصيرة قد لا يتجاوز الأيام خصوصًا إذا كان القضاة متعددين ليتداولوا الرأي فيما بينهم. ووسيلة لتوفير ضمانات للخصوم، ووسيلة لتحقيق العدالة في الوقت نفسه فلن يُسلب القاضي سلطته بل سيترك له سلطة تقدير العقاب الملائم بين حدي العقوبة المقررة أو لتقدير الظروف المؤثرة للدعوى.
وستسبقه دراسات واسعة ومناقشات كثيرة، وعرض الآراء المتعددة لاختيار أفضلها وأكثرها ملاءمة لظروف المجتمع المسلم، والأحكام المقننة لا شك أنها ستكون دليلًا للباحثين والدارسين، وهدفًا للمناقشات، وموضوعات يتناقلها الفقهاء بالتحليل والمقارنة.
- الكاتب:
آدم يونس - التصنيف:
تاريخ و حضارة