كتاب "مليشيا الإلحاد" لكاتبه عبد الله العجيري يتناول أخطر المسائل المستجدة على الساحة الإعلامية والاجتماعية اليوم؛ قضية الإلحاد التي صارت أعقد بكثير عما كانت عليه سابقا. قسّم الباحث العجيري كتابه لمقدمة وثلاثة محاور أساسية وخاتمة، وأردف ذلك بثلاثة ملاحق، وهو من مطبوعات مركز "تكوين للدراسات والأبحاث"، والكتاب مدخل مهم لما بعده من كتب الرد وتفنيد ظاهرة الإلحاد.
ملحد على منصة الأديان!
بدأ الكاتب مقدمته بذكر قصة زيارته لدولة أوروبية قبل تسع سنوات، والتي تزامنت مع إقامة مؤتمر مفتوح لحوار الأديان، الذي شملت منصته ممثلي الأديان وكان باستضافتهم «ملحد» يقدم ورقة بحثية عن الإلحاد! ثم تفاجأ بعد خروجه من القاعة بمعرض يعرض فيه كل أصحاب دين واتجاه ما يتعلق بهم من كتب ومطويات ومواد سمعية وبصرية، وبطبيعة الحال ذهب مباشرة لركن الملاحدة، فإذا فيه إنتاج كثير حتى على مستوى الكتب المصورة التي تقرب المفاهيم الإلحادية للأطفال، وكانت من هنا بداية الاهتمام.
لماذا الحديث عن (ميلشيا الإلحاد)؟!
يوضح الكاتب أن السبب المركزي للكتاب هو التصورات السائدة لدى مجتمعنا العربي ولاسيما الشرعيين، حيث يجعلون واقع الإلحاد اليوم على أحد تصورين:
الأول: أن الإلحاد استثناء في المشهد العقدي ونوع من الشذوذ البشري ولا وزن لهم ولا عدد، وقد يعضد البعض هذا التصور ببعض النقولات التراثية، وأنه «لا قول معروف لطائفة يذبون عنه»، وأن فساد تلك الأقوال (أبين من أن يحتاج إلى دليل).
الثاني: أن الإلحاد كان حالة مقترنة بالتمدد الشيوعي وتقلصت بتقلص الظاهرة الشيوعية.
ويوضح الكاتب أن كلا التصورين يحتاج إلى مراجعة؛ فالتصور الأول كان صحيحا مقبولا، ولكن في مرحلة تاريخية معينة، لكنه لا يمثل مطلقا الواقع العقدي الذي نعيشه، فقد أصبح لهم وجود وتعداد وإحصائيات موجودة ومنشورة . وأما التصور الثاني في ارتباط الإلحاد بالشيوعية، فيقال: نعم؛ عادت ظاهرة التدين للدول التي تحلحلت عنها القبضة الشيوعية، لكن الملعب نزل به لاعبون جُدُد وهناك وجوه جديدة في دول أخرى كثيرة وموجة إلحادية تستدعي قدرا من الرصد والفحص والدراسة.
تطورات الإلحاد الجديد:
يشرع الكاتب في المحور الأول من الكتاب تحت هذا العنوان ببيان أن مقصوده تقديم تصور مختصر لأهم التطورات التي لحقت بالخطاب الإلحادي حتى أفرزت ما بات يعرف حاليا بـ«الإلحاد الجديد»، والذي بدأت بوادره عام 2006، ويوضح الكاتب أن الإلحاد في الواقع الغربي «المنكر فعلا لوجود الخالق جل وعلا»، والذي كان يختلف عن الإلحاد في الواقع العربي – الذي كان مقتصرا على منكرات عقدية كبرى كإنكار النبوة أو الحلول أو الاتحاد، دون إنكار الخالق – فإن الوضع الآن أن الإلحاد في الفضاء العربي يتطور لتشمل كلمة الإلحاد عامة في الاصطلاح الشائع اليوم (إنكار وجود الله) أصالة و (إنكار النبوات) وغيرها من المنكرات العقدية بالتبعية.
التطورات: ثلاثة مواقف للإلحاد من مسألة الإيمان:
يمكن حصر المواقف الإلحادي من قضية الإيمان بالله تعالى والوحي والنبوة في ثلاثة مواقف رئيسة:
• الإلحاد الصلب| الإيجابي |Atheism : هو الذي يعتقد صاحبه بعدم وجود الخالق، وبالتالي يتنكر للوحي والنبوات ولا يتدين بدين.
• الإلحاد السلبي| الـلاأدري| Agnosticism: هو من لا يؤمن بوجود الخالق ولا ينكره! فيقول: ليس عندي دليل على وجوده ولا عدمه، فهو (متوقف)، وقد ينكر بعضهم عدم إمكانية الجواب عن سؤال الوجود لعدم وجود أدوات التوصل أصلا إلى الجواب.
• الربوبيـة|Deism: هو موقف عقدي يؤمن صاحبه بوجود الخالق، لكنه ينكر صلة هذا الخالق بهذا الكون عبر وحي أو رسالة، فالخالق من هذا المنظور «خلق العالم ثم تركه»، ويتم التعرف عليه من خلال التأمل والاستدلال العقلي عليه .
ويذكر الباحث موقفا رابعا ممكنا في تقسيمه المواقف العقدية من قضية وجود الخالق، وهو الموقف الإيماني (المؤمن المتدين | Theism) ، وأوضح العجيرى أن الدراسة ستعالج الموقف الأول والثاني فقط لعنايتها بموضوع الإلحاد ووجود الخالق.
سمات الخطاب الإلحادي الجديد:
يذكر العجيري ست سمات أساسية للخطاب الإلحادي الجديد، كما يلي:
1. الحماسة والحرص الشديد على الدعوة للإلحاد
فهذه الحماسة من أبرز التداعيات غير المنظورة لحادثة الحادي عشر من سبتمبر، حيث ترسخ في وعي كثير من الملاحدة أن قضية الإيمان والتدين باتت مهددًا حقيقيا للبشرية، وقد ظهر ذلك الحرص من خلال عدة أمور:
• التأليف والكتابة: فقد تسارعت وتيرة الكتابة في موضوع الإلحاد وتأليف العديد من المؤلفات التي مثلت القوة الدافعة والنواة الرئيسة للإلحاد الجديد، وظهر مؤلفو تلك الكتب كرموز للإلحاد الجديد وعموده الفقري، ومنهم (سام هارس، ريتشارد دوكنز، دانييل دينت، فكتور ستنجر، كريستوفر هيتشنز )، وزاد التنوع في الكتابة فظهرت الكتب ذات الطابع الشعبي، والتي تعمل على اختراق بيئات مجتمعية أوسع من خلال سهولة الطرح وبساطة الأسلوب، بل ظهرت الكتب التي تقدّم خارطة طريق لبيان كيفية العيش كملحد! وأبلغ من هذا جاءت كتب مصورة ومؤلفة خصيصا للأطفال لترويج الفكر الإلحادي في تلك السن المبكرة.
• البرامج الفضائية والإذاعية: حيث أنتج الملاحدة عددا غير قليل من البرامج الإعلامية المتنوعة (حوارية/تعليمية/وثائقية) وأيضا ظهرت المسلسلات الترفيهية، والأغاني الإلحادية، وهو مجال خصب لتشكيل العقول وتغيير القناعات، ومن اللافت أيضا وجود أفلام كرتونية تقوم بتسريب مضامين إلحادية في قوالب غير مباشرة، لكن هناك قنوات تقدم أعمالا فنية مباشرة تناقش الإلحاد وتقدم أفلاما إلحادية صريحة مثل قناة (ديسكفري)، و (ناشينولجيوجرافيك).
ومن مظاهر الحضور الإعلامي في الدعوة للإلحاد وتطبيع حضوره في الواقع ظهور اللافتات واللوحات الدعائية الداعية للإلحاد، حيث يستأجر الملاحدة اللافتات ويقومون بكتابة العبارات الدعائية عليها، أو تأكيد الهوية الإلحادية بارتداء الملابس والقمصان المطبوع عليها عبارات إلحادية، أو في شكل ملصقات على السيارات.
• مؤسسات إلحادية: من مظاهر الحماسة والحرص الشديد ظهور مؤسسات راعية معنية بالدعوة إلى الإلحاد ورعاية الملحدين، ودعم المؤسسات العلمانية لضمان مبدأ الفصل بين الدين والدولة في المؤسسات، ومن أشهرها: (التحالف الدولي للملاحدة- رابطة الملاحدة- مؤسسة ريتشارد دوكنز لدعم العقل والعلم- الاتحاد الدولي للاتجاه الإنساني والأخلاقي)، فليس الأمر عملا عشوائيا يعتمد على الجهود الذاتية الفردية فقط، ومع ذلك تستقبل هذه المؤسسات الدعم من خلال الاشتراكات من الأفراد، ويضعون لكل شريحة سعرا محددا بناء عن أفكاره ومدى تحمسه لتلك الأفكار.
• مواقع إنترنت وشبكات التواصل: وهي مواقع كثيرة تقدم مواد كثيرة متصلة بالظاهرة الإلحادية، مع حضور قوي لتلك المواقع والمدونين على صفحات التواصل الأشهر (فيسبوك- تويتر)، إضافة إلى مواقع إلحادية للأطفال والمراهقين والوالدين يقدم التوجيهات والإرشادات والمواد الإلحادية.
2. عدائيـة الخطاب الإلحادي الجديد
يوضح الكاتب في السمة الثانية أن الملاحدة الجدد ينطلقون في تعاملهم مع الدِّين من رؤية ترى فيه منبعا للشرور والكوارث والقوارع البشرية، وأنه من الواجب السعي بجدية في محاربته، وكما عبر بعضهم : «ذهبت أيام الإلحاد المؤدب»!، وقول آخرين: «أتمنى حقًا حقًا أن أرى الدين يزول تماما»!
ونتيجة لتلك السمة فقد قاموا بإصدار عدد كبير من المقالات والتدوينات والكتابات والمقاطع المرئية والأفلام يبثون من خلالها قدرا كبيرا من النقد بلغة شديدة السقوط والعدوانية والمقاطع البذيئة، مما حدا ببعضهم لاستنكار ذلك الاتجاه العدائي والساقط في تناول الإلحاد، وأن هذا الأسلوب الوقح سيؤدي إلى خسارة المعركة.
3. استعمال أداة الإرهاب في حرب الأديان
تُبرز السمة الثالثة تطور الفكر القتالي للملحدين، حيث صاروا يحاربون بنفس الأسلوب الذي كان ينفذ منه الخطاب الديني، والذي كان يهاجم الاتجاه الإلحادي بعرض الأسئلة التي تكشف عن كارثية الوضع الأخلاقي وأهمية البعد الديني في حياة الناس، مثل: «تخيلوا عالما بلا دين ولا إيمان، ما الذي سيولد حالة الانضباط الأخلاقي عند الناس؟».
فيرد الملحدون بإيراد نفس السؤال: «تخيلوا عالما بلا دين! لا محاكم تفتيش، ولا حروب صليبية، ولا 11 سبتمبر»، فينقلب الخطاب الديني ليكون في موقف الدفاع عن موقع الأديان بدل أن يكون السؤال هجوميا محرجا للخطاب الإلحادي.
ويؤخذ على الكاتب – في هذا السياق – استعمال لفظ «الإرهاب» مفردًا دون تقييده بما يفيد مراده من العنوان، فالمراد هنا – حسب ما فهمتُ – «الإرهاب الفكري»، حيث العمل على «شيطنة الأديان» ونشر فكرة أن «كل الشرور دينية»، في نفس الوقت الذي يبرؤون فيه الإلحاد من جميع صور الشر، وأنه لا دليل مطلقا على أن الإلحاد يقوم بتحريك الناس نحو الأفعال المشينة! كما يقول «دوكنز». في حين ينكر أو يتجاهل أن أكبر الحروب في العالم كانت علمانية، وأن أكبر الملاحدة مثل (لينين، ستالين، موسوليني، ماو) هم من كانوا سببا لتلك الحروب الضخمة وتسببوا في قتل ملايين البشر، وحتى في الواقع المعاصر ما يدل على ذلك.
4. الهجـوم الـلاذع على دين الإسـلام
يرصد الكاتب موقع الإسلام من خارطة الإلحاد الجديد، ويوضح أن أغلب السجالات كانت بين الإلحاد والنصرانية بحكم الحاضنة المجتمعية الغربية، وظل الأمر كذلك حتى أحداث سبتمبر، فانتقل العداء إلى دين الإسلام ليصبح أصل سجالاتهم وحربهم!
ويكشف الكاتب أيضا من خلال الرصد أن الكذب على الإسلام عمدا أو جهلا سمة أصيلة في عامة في المحاضرات والمناظرات التي يقدمها الملاحدة.
5. جاذبيـة الإلحـاد الجـديد
تحولت الظاهرة الإلحادية الجديدة إلى موجة جاذبة لها جمهورها من المعجبين والمعجبات، ويظهر ذلك في تجمعات المشاهير الأربعة (ريتشارد دوكنز – وسام هارس- كريستوفر هيتشنز- دانيل دينيت)، حتى أسموهم بالفرسان الأربعة، والذين يحرص المعجبون على توقيعاتهم والتصوير معهم والمتابعة الشديدة لمنتجاتهم الفكرية، وتعليق صورهم أو كتابة تعبيرات تعبر عن المغالاة الشديدة في التشبه بهم، حتى علق أحد الملاحدة بتخوفه من ذلك التعلق الذي يشبه التعامل مع المفكرين كأبطال ورموز طائفية.
6. المغالاة الشديدة في العلوم الطبيعية والتجريبية
في السمة الأخيرة أن الإلحاد الجديد وإن كان يشترك مع كل الظواهر الإلحادية السابقة في الاعتداد بالعلوم الطبيعية دون غيرها لكن تلك العلوم باتت مركز تشكيل الرؤية الإلحادية الجديدة مع غلو شديد في إمكانيات العلم التجريبي وعداء شديد لكل ما كان خارجا عن تلك العلمية الضيقة، فإطلاق مصطلح (Scientism| ساينتزم- العلموية) على ذلك الاتجاه، يهدف إلى حصر مصدرية المعرفة في العلوم التجريبية.