هي حقيقةٌ ثابتةٌ عند الإمام القرطبي صاحب التفسير الشهير: "الجامع لأحكام القرآن"، تلك المتعلّقة بحالٍ من أحوال يوم القيامة وأشراطها، "الدابّة" كما يسمّيها القرآن، والتي تخرج في آخر الزمان، تكلّم الناس، وتمايز بين مؤمنهم وكافرهم: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} (النمل:82).
ولئن كانت الدابّة المذكورة مسلّمةٌ عقديّة لا مجال للشك فيها –عند الإمام وعند غيرِه-، خصوصاً وأن النص المثبت لها قرآني، يبقى الكلام في تعيين حقيقة هذه الدابة، وهو الهامش الذي تباينت فيه أقوال العلماء .
وفي خضمّ هذه الأقوال وتبايُناتها، يبرز رأي الإمام القرطبي حول حقيقة الدابّة، استلهمه من أحد النصوص الواردة في السنّة، فما هو رأي الإمام في الدابّة، وما الدليل والمستند على قولِه فيها، وما مدى صحّة ووجاهة ما ذهب إليه؟ وكلّها أسئلةٌ تنجلي أجوبتها في ثنايا الأسطر القادمة.
رأي الإمام القرطبي في حقيقة الدابّة
يرى الإمام أن الدابّة المذكورة هي فصيل ناقة صالح عليه السلام، والفصيل كما يذكر علماء اللغة: "ولد الناقة إذا فُصِلَ عن أمّه، واستغنى عن لبنها".
قال الإمام القرطبي: " واختُلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافاً كثيراً.. وأول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح عليه السلام، وهو أصحها والله أعلم".
وفي كتابه التذكرة في أحوال الموتى والآخرة ذكرَ شيئاً من التفصيل فقال: " وقد قيل: إن الدابة التي تخرج هي الفصيل الذي كان لناقة صالح عليه السلام، فلما قتلت الناقة هرب الفصيل بنفسه فانفتح له حجر فدخل فيه ثم انطبق عليه، فهو فيه إلى وقت خروجه حتى يخرج بإذن الله تعالى".
وفي هذا السياق استحسن بيتاً من الشعرِ يربط بين الناقة وبين ما هو منسوبٌ من أفعال الدابّة كما هو مذكورٌ في السنّة، وهو البيت القائل:
واذكر خروج فعيل ناقة صالح ... يسم الورى بالكفر والإيمان
الدليل على هذا القول
يستدلّ الإمام القرطبي على هذا القول بما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدابّة فقال: (لها –أي الدابّة- ثلاث خَرجات من الدهر..وبينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمةً وأكرمها على الله: المسجد الحرام، لم يَرُعْهم إلا وهي ترْغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب.. وولّت في الأرض لا يُدركها طالب ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوّذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان الآن تصلي؟ فتُقبل عليه فتَسِمُهُ في وجهه ثم تنطلق).
وعن موضع الشاهد من الحديث، يذكر الإمام ربطَه بين ما هو معروف في جملةِ العقائد مما هو ثابتٌ ومنسوب من أعمال دابّة الأرض في التفريق بين المؤمن والكافر، ووسْم الناس على وجوههم، وبين ما هو مذكورٌ من صفات هذه الدابّة في الحديث السابق، حيث لفتَ نظرَه الوصف النبوي لصوت هذه الدابّة وهو الرغاء، حيث ذكرَ أن الرغاء إنما هو من خاصٌّ بالإبل فقط.
يقول القرطبي: "وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قول: (وهي ترغو)، والرغاء إنما هو للإبل".
مناقشة الدليل
عند التأمّل فيما ذكره الإمام، والنظر في الدليل ومدلولِه، يمكن مناقشة قوله بما يلي:
أولاً: الحديث الذي استند عليه الإمام القرطبي لا يثبت عند العلماء، فقد ضعّفه ابن كثير وقال عنه: " إسناده لا يصح"، وقال الحافظ ابن حجر: " أخرجه الحاكم من طريق العبقري عن طلحة وحده بطوله، وطلحة ضعيف".
ثانياً: ليس ثمّة أي دليل سمعي آخر يدلّ على أن فصيل ناقة صالح عليه السلام، هي الدابّة المذكورة، وفوق ذلك: لا دليل على الإطلاق يصحّ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- يُثبت أن الناقة كان لها ولدٌ بالأساس.
ثالثاً: أن الآية في سورة النمل كانت عامّة، والتعبير عنها جاء كالتالي: { أخرجنا لهم دابة من الأرض} (النمل:82) بلفظ التنكير، ولم تحدّد الآية أياً من دوابّ الأرض.
رابعاً: اللفظة التي استند عليها الإمام القرطبي والمذكورة في الحديث، هي: (وهي ترْغو بين الركن والمقام)، وأن الرغاء للإبل فقط، ليس مسلماً به ، فالرغاء صوتٌ يشترك فيه الإبل مع غيرِه من الحيوانات، فالضبع –وهو من السباع- يوصفُ صوتُه بالرغاء، فقد جاء في مجمل اللغة لابن فارس: " والرغاءُ: رغاء الناقة والضبع، وهو صوتهما".
ونخلص من ذلك: أن القول بأن الدابّة التي ذكرها الله في كتابِه، والتي عدّها النبي –صلى الله عليه وسلم- من أشراط الساعة، لا علاقة لها بمعجزة صالح عليه السلام: الناقة أو ولدها إن كان لها ولد، ولا دليل يُعتمد عليه في ذلك، والله أعلم.