من محاسن الشريعة أنها ندبت المسلمين إلى أن يرفق بعضهم ببعض، بعيدا عن المعاوضات والماديات واستقصاء الحقوق، فشرعت للمحسنين عقودا قائمة على أساس الرفق بالناس، يسميها البعض بعقود الارفاق، كالقرض والعارية والكفالة والضمان وغيرها، وهي معاملات حسنة بين المسلمين يفعلونها من غير أن يتقاضى بمقابلها عوضاً مالياً، إنما يفعلونها إرفاقاً وإحساناً.
ومن تلك المعاملات الحسنة التي ندبت إليها الشريعة وحثت عليها القرض والمداينة، فقد روى الإمام أحمد وغيره أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن السَّلف يجري مجرى شطر الصدقة». صححه الألباني.
ومن ثم استُحِب لصاحب الدين إنظار المعسر الذي لا يجد وفاءً لدينه، ورتب على ذلك الثواب العظيم، ففي صحيح مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: «من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أنظر معسرا كان له كل يوم صدقة، ومن أنظره بعد حله كان له مثله في كل يوم صدقة». رواه أحمد وغيره عن سليمان بن بريدة.
وهذا موقف من مواقف التراحم بين المدين والدائن في خير القرون، وفيه بيان أجر الإنظار للمعسر، أو وضع الدين عنه أو بعضه، رواه الإمام مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار، قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعه غلام له، معه ضمامة من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري، وعلى غلامه بردة ومعافري، فقال له أبي: يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب، قال: أجل، كان لي على فلان ابن فلان الحرامي مال، فأتيت أهله، فسلمت، فقلت: ثمَّ هو؟ قالوا: لا، فخرج علي ابن له جفر، فقلت له: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي، فقلت: اخرج إلي، فقد علمت أين أنت، فخرج، فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا، والله أحدثك، ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت والله معسرا قال: قلت: آلله قال: الله قلت: آلله قال: الله قلت: آلله قال: الله قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده، فقال: إن وجدت قضاء فاقضني، وإلا أنت في حل، فأشهد بصر عيني هاتين - ووضع إصبعيه على عينيه - وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي هذا - وأشار إلى مناط قلبه - رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظله».
غير أن الواجد لما يسد دينه لا يحل له التأخر عن السداد إذا حل الأجل وطالبه الدائن، وإلا كان آثما ظالما، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» رواه مسلم.
والمطل: أصله التأخير، وهو هنا تأخير ما استحق أداؤه، ومنع ما وجب بذله.
وعن عمرو بن الشَّريد عن أبيه، عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال:«لَيُّ الواجِدِ يحل عِرضَه وعقوبَتَه» رواه أبو داود، ورواه البخاري معلقاً. واللي المطل، والواجد هو الغني، ومعنى «يحل عرضه»: بشكايته والإغلاظ له بالقول، كما قاله ابن المبارك.
قال الخطابي: في الحديث دليل على أن المعسر لا حبس عليه لأنه إنما أباح حبسه إذا كان واجداً والمعدم غير واجد فلا حبس عليه.
وقد اختلف الناس في هذا فكان شريح يرى حبس الملي والمعدم، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي.
وقال مالك: لا حبس على معسر إنما حظه الإنظار، ومذهب الشافعي إن من كان ظاهر حاله العسر فلا يحبس، ومن كان ظاهر حاله اليسار حبس إذا امتنع من أداء الحق. أ.هـ.
وقد جعل بعض العلماء المطل من الغني مانعا من قبول شهادته، قال ابن بطال: وقال أصبغ وسحنون: إذا مطل بدين لم تجز شهادته؛ لأن الرسول سماه ظالما، وعند غيرهما من العلماء لا تسقط شهادته إلا أن يكون ذلك الأغلب من فعله. أ.هـ.
ويدل هذا على جرم هذا الفعل الذي تساهل به الناس، فتجد صاحب الحق يتعب في الوصول إلى حقه مع كونه محسنا لا ينبغي أن يقابل إحسانه بالمماطلة والتأخير من غير موجب.
وأما الشطر الثاني من الحديث وهو قوله: «وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» .
والمعنى: إذا أحيل الدائن المطالب بالدين على موسر فليتبع حقه ممن أحيل عليه، ومفهومه إنه إذا أحيل على غير مليء فلا يتبع.
وهذا الحديث أصل في باب الحوالة وهي: انتقال دين من ذمة إلى ذمة، وهي استثناء من بيع الدَّين بالدَّين؛ لعموم الحاجة إليها.
وهل هذا الأمر الوارد في الحديث للندب والإرشاد، أو للإيجاب والإلزام؟
قال ابن عبد البر: وهذا عند أكثر العلماء إرشاد ليس بواجب فرضا، وجائز عندهم لصاحب الدين إذا رضي بذمة غريمه وطابت نفسه على الصبر عليه أو علم منه غنى ألا يستحيل إلا أن يشاء، وأما أهل الظاهر فأوجبوا ذلك عليه فرضا إذا كان المحال عليه مليئا. أ.هـ.
لكن الأفضل أن يقبل الحوالة إلا من مانع كما يقول الشيخ ابن عثيمين: واختلف العلماء هل هذا على سبيل الوجوب، أو أن هذا على سبيل الاستحباب؟ فذهب الحنابلة -رحمهم الله- إلى أن هذا على سبيل الوجوب، وأنه يجب على الطالب أن يتحول إن حُوِّل على إنسان مليء، وقال أكثر العلماء: إنه على سبيل الاستحباب؛ لأن الإنسان لا يلزمه أن يتحول، قد يقول: صاحب الأول أهون وأيسر، وأما الثاني فأهابه، وأخاف منه، وما أشبه ذلك، لكن لا شك أن الأفضل أن يتحول إلا لمانع شرعي. انتهى.