الالتزم بتعاليم الإسلام يشكل حماية للأفراد والمجتمعات، فيأمن الفرد فيه على نفسه وماله وأهله، ولا غرابة فإن الشارع الحكيم سن للخلق ما يوفر لهم الأمان والسلام، فلا يضيع فيه حق لأحد، فلو سقط مال عن صاحبه فلم تبح الشريعة لواجده أن يتملكه، بل احتاطت بتدابير محكمة لإيصال هذا المال لصاحبه، وحددت للملتقط حدوداً واضحة لتضمن سلامة المال الملتقَط، فلا تمتد يد الملتقِط إليه إلا على جهة الصون والتعريف، فقطعت الأطماع في الأموال الضائعة، بل وجعلت الواجد لها أمام مسؤولية أخلاقية تجاه حقوق الآخرين، وتلك تعاليم غاية في النزاهة والصيانة للأموال المعصومة.
ففي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: ((سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة الذهب , أو الورق؟ فقال: اعرف وكاءها وعفاصها , ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر: فأدها إليه, وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: ما لك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها , ترد الماء وتأكل الشجر , حتى يجدها ربها. وسأله عن الشاة؟ فقال: خذها فإنما هي لك , أو لأخيك , أو للذئب» . [ص:197]
وِكاءها: الوكاء: ما يربط به الشيء.
عِفاصها: وعاؤها.
حذاءها: خفها.
سقاءها: جوفها الذي حمل كثيرا من الماء والطعام.
تعريف اللقطة:
اللقطة لغة: ما وجد على تَطَلُّب قال تعالى {فالتقطه آل فرعون}.
وشرعاً كما عرفها الخطيب الشربيني وهي: ما وجد في موضع غير مملوك من مال أو مختص ضائع من مالكه بسقوط أو غفلة ونحوها لغير حربي ليس بمحرز ولا ممتنع بقوته ولا يعرف الواجد مالكه.
ومن خلال التعريف يتضح لنا مجموعة من القيود والشروط في معنى اللقطة، فقوله "ما وجد في موضع غير مملوك" يخرج به ما لو وجده في موضع مملوك فلا تكون لقطة بل هي لمالك الموضع، وقوله "لغير حربي" خرج به مال الحربي الملتقط فلا حرمة له بل يكون غنيمة مخمسة، وقوله "ليس بحرز" خرج به المال المحرز بحرز فإنه واجده لا يلتقطه، وقوله "ولا ممتنع بقوته" خرج به الإبل كما سيأتي فإنها لا تلتقط، وقوله "ولا يعرف الواجد مالكه" خرج به ما لو عرف مالكه فإنه لا يتملكها بل يوصلها له.
أقسام اللقطة وأحكامها:
من خلال الحديث يتبين أن اللقطة قسمان:
الأول: لقطة الحيوان وهي نوعان:
النوع الأول: الحيوان الممتنع بنفسه من الوحوش العادية كالإبل والخيل والغزال، وغيرها فهذه لا تلتقط، وهي المقصودة بقوله -صلى الله عليه وسلم في الحديث: «ما لك ولها؟ دعْها فإن معها حذاءها وسقاءها , تَرِدُ الماء وتأكل الشجر , حتى يجدها ربُّها».
النوع الثاني: الحيوان الذي لا يمتنع بنفسه فيكون عرضة لملتقِط آخر، أو لحيوان مفترس، فهذا يُلتقَط وتجري عليه أحكام اللقطة كما سيأتي، ويدل عليه من الحديث «خذها فإنما هي لك, أو لأخيك , أو للذئب».
والثاني: لقطة غير الحيوان، ويدخل فيها الذهب والورق كما في الحديث، وما في معناه من النقود، وسائر المقتنيات كالثياب والحقائب، وغيرها، وهي نوعان:
النوع الأول: المحقَّرات وهي الأشياء التافهة التي لا تَتْبعها همة أوساط الناس، وهذا يختلف في كل بلد بحسبه، فالريال مثلاً قد يكون تافها في بلد ثمينا في بلد آخر وهكذا، وحكمها أنه يجوز تملُّكُها؛ لما جرت به العادة من التسامح بمثل هذه المحقَّرات.
والنوع الثاني: غير المحقَّرات مما تلتفت إليه رغبة أوساط الناس، وهي المقصودة بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:«إعرف وِكاءها وعِفاصَها , ثم عرِّفها سَنَة فإن لم تُعرف فاستنفِقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر: فأدِّها إليه» .
التعريف باللقطة:
تقدم في أنواع اللقطة أن منها ما يؤخذ للتملك وهي المحقرات التي لا تتبعها رغبة أوساط الناس، وهذا النوع واضح حكمه، وأما ما أخذ للتعريف فهذا يحتاج إلى بيان لكيفية وطرق التعريف الذي تبرأ به ذمة الملتقِط، ويمكن إجمال ذلك في نقاط:
أولا: على واجد اللقطة أن يلتقطها بقصد الحفظ والتعريف، وبشرط أن يعلم من نفسه قدرة على حفظها، وأمانة تمنعه من التسلط عليها، وأن يعلم أن التعريف باللقطة وإرجاعَها لمن فقدها عمل من أعمال البر والإحسان إلى الخلق، فيحتسب أجره على الله تعالى.
ثانياً: يتعرف على العين الملتقطة بما يميِّزها عن غيرها من الصفات، بحيث إذا جاء مَن يدعيها وسأله عن صفاتها استطاع أن يعرف هل هو صاحبها أمْ لا؟ فإذا دفعها كان على يقين انه دفعها لمستحقِّها.
فيتعرف على وعائها إن كان لها وعاء، وعلى رباطه إن كان له رباط، وهي العِفاص والوِكاء، كما يعرف عددها إن كانت ذات عدد، وجنسها ونوعها، وما الى ذلك من صفات كما ذكرت، وتختلف باختلاف الشيء، وهذا كما في الحديث: -:«إعرف وِكاءها وعِفاصَها»
ثالثاً: في الأشياء الثمينة التي من شأنها أن لا يكف صاحبها عن البحث عنها فإنها تُعرَّف سنة كما ثبت في النص: «ثم عرِّفها سَنَة» يعرفه كل يوم مرتين لمدة أسبوع، ثم كل يوم مرة أسبوعا آخر، ثم كل أسبوع مرة ليتمّ سبعة أسابيع، ثم في كل شهر مرة، وهذه التحديد مرده لاجتهاد العلماء والقصد منه استيعاب المدة التي يغلب على الظن سماع صاحب اللقطة بحقه فيأتي لاسترداده.
رابعاً: يكون التعريف في المواضع التي يغلب على الظن أن يصل فيه الخبر لفاقد اللقطة، كالأسواق والمحال التجارية، وربما استعان اليوم بوسائل التواصل الكثيرة والمتعددة من خلال الكتابة في الجرائد والمواقع والحسابات، وتكون نفقة التعريف على صاحب المال.
حكم اللقطة بعد التعريف:
إذا عرفها الملتقط على الوجه الذي سبق فإن جاء صاحبها وذكر أوصافها مطابقة للحال، دفعت إليه وجوبا؛ لقوله في رواية مسلم: «فإن جاء صاحبها، وعرف عِفاصها ووِكاءها وعددها، فأعطها إياه» وزاد بعضهم شرط إقامة البينة على ذلك، ولا يُكتفى بمجرد الدعوى؛ وذلك مزيداً من التوثق في وصول الحق لصاحبه.
أما إذا لم يُعرف صاحبها فقد دخلت في ملك الملتقط على وجه اللزوم كالميراث، فيجوز له أن يتصرف بها وديعةً مضمونةً عند ظهور صاحبها؛ لما في الحديث: «فإن لم تُعرف فاستنفِقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر: فأدِّها إليه».
وتسميتُها وديعة من باب المجاز، فالوديعة لا يجوز استنفاقها، وإنما سميت بذلك لكونها مضمونة إذا جاء صاحبها.
أقوال الفقهاء في حكم اللقطة بعد تعريفها حولاً كاملاً:
نقل السفاريني في كشف اللثام اختلاف الفقهاء في هذه المسألة فقال: قال مالك والشافعي: تُملك جميع اللقطات بعد حول التعريف، سواء كان غنيًا، أو فقيرًا، وسواء كانت اللقطة أثمانًا، أو عروضًا.
وقال مالك: هو بالخيار من أن يتركها في يده أمانة، وإن تلفت فلا ضمان عليه، وبين أن يتصدّق بها بشرط الضمان، وتصير دينًا في ذمته.
وقال: أبو حنيفة: لا يملك الملتقِطُ شيئًا من اللُّقَطات، ولا يُنتفع بها إذا كان الملتقط غنيًا، فإن كان فقيرًا، جاز له الانتفاع بها بشرط الضمان، فأمّا الغني، فإنه يتصدق بها بشرط الضمان أيضا. أ.هـ