الأصل أنه لا يجب على المكلف إلا ما وجب في أصل الشرع، لكن قد يوجب الإنسان على نفسه تكليفا بطريق النذر؛ إلزاما للنفس سواء كان على وجه المقابلة بين الفعل وحصول مطلوب للعبد، أو كان ابتدائيا غير مشروط، والأدلة الواردة في هذا الباب قد تشكل على الناظر في ظواهرها، بين نهي عنه وأمر بالوفاء به وثناء على فاعله، فلزم النظر في كلام الفقهاء حول تلك النصوص.
قال القرطبي: النذر من العقود المأمور بالوفاء بها، المثني على فاعلها، وأعلى أنواعه ما كان غير معلق على شيء، كمن يعافى من مرض، فقال: لله علي أن أصوم كذا أو أتصدق بكذا؛ شكرا لله تعالى، ويليه المعلق على فعل طاعة، كـ "إن شفى الله مريضي صمت كذا أو صليت كذا"، وما عدا هذا من أنواعه كنذر اللجاج كمن يستثقل عبدَه فينذر أن يعتقه ليتخلص من صحبته، فلا يقصد القربة بذلك، أو يحمل على نفسه فينذر صلاة كثيرة أو صوما مما يشق عليه فعله ويتضرر بفعله، فإن ذلك يكره، وقد يبلغ بعضه التحريم.
وقد ورد النهي عن إنشاء النذر ابتداء في أحاديث كثيرة من ذلك ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر، قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما ينهانا عن النذر، ويقول: «إنه لا يَردُّ شيئا، وإنما يُستخرج به من الشحيح»، وفي رواية عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «النذر لا يقدم شيئا، ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل».
والحكمة في النهي عن النذر؛ لكونه إلزام للنفس بما لم يلزمها به الشرع، فيأتي به الإنسان بعد وجوبه إلزاما لا على وجه الرغبة بالقربة، ولما فيه من المعاوضة بين العبادة وبين حصول المطلوب، وشأن العبادة الخلوص لله من مثل هذا الاشتراط والمقابلة.
قال القاضي عياض: ويحتمل أن النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النذر يرد القدر ويمنع من حصول المقدر فنهى عنه خوفا من جاهل يعتقد ذلك.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر، فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج».
وسواء كان النذر مشروطاً بقربة مالية أو بدنية فإن النهي متوجه للحالين؛ لتحقق المحاذير السابقة في الحالين، ولا اختصاص للنهي ببعض القُرب دون بعض.
قال ابن حجر: في قوله: «إنما يستخرج به من البخيل»، قد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة.
والنهي عن النذر متوجه إليه قبل وقوعه من الناذر، فإذا وقع منه وجب عليه الوفاء به إن كان طاعة؛ لحديث الصحيحين عن عائشة: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»، وحديث عمر في الصحيح: «فأوف بنذرك».
قال الخطابي في الأعلام: هذا باب من العلم غريب، وهو أن ينهى عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبا.
وقد أشكل ما ورد في الآية من الثناء على من يوفون بالنذر، وتسميتهم أبرارا، وبين ما ورد من النهي عن النذر، فحمل بعضهم النهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه، وجزم القرطبي في المفهم بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا
وأما نذر المعصية فيحرم إنشاؤه، ومن ثم يحرم الوفاء به، كما في الصحيحين عن عمران ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية الله»، وقصة الحديث كما ذكرها عمران قال: وأسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء، فلم ترغ، قال: وناقة منوقة -أي مذللة- فقعدت في عجزها، ثم زجرتها فانطلقت، ونذروا بها - أي علموا وأحسوا بهربها- فطلبوها فأعجزتهم، قال: ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال: «سبحان الله، بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد»، وفي رواية ابن حجر: «لا نذر في معصية الله».
قال النووي: في هذا دليل على أن من نذر معصية كشرب الخمر ونحو ذلك فنذره باطل لا ينعقد.
ولكن هل عليه كفارة؟
الجواب كما قال النووي: لا تلزمه كفارة يمين ولا غيرها، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وداود وجمهور العلماء، وقال أحمد تجب فيه كفارة اليمين بالحديث المروي عن عمران بن الحصين وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال «لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين» واحتج الجمهور بحديث عمران بن حصين المذكور في الكتاب وأما حديث كفارته كفارة يمين فضعيف باتفاق المحدثين.
وأما النذر المباح الذي ليس بطاعة ولا معصية فلا يلزم الوفاء به كما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه، يتوكأ عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما شأن هذا؟» قال ابناه: يا رسول الله، كان عليه نذر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اركب أيها الشيخ، فإن الله غني عنك، وعن نذرك».
وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، أنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيته، فقال: «لتمش، ولتركب».
وأما توجيه حديث عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفارة النذر كفارة اليمين»، قال النووي: اختلف العلماء في المراد به فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج وهو أن يقول إنسان -يريد الامتناع من كلام زيد مثلا-: إن كلمت زيدا مثلا فلله علي حجة أو غيرها، فيكلمه، فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح في مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة يمين والله أعلم
وإذا مات الميت وعليه نذر في ذمته فهل يلزم الوفاء به؟ ورد في الصحيح عن ابن عباس، أنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نذر كان على أمه، توفيت قبل أن تقضيه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فاقضه عنها».
قال النووي: واعلم أن مذهبنا ومذهب الجمهور أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب على الميت إذا كان غير مالي، ولا إذا كان ماليا ولم يخلف تركة، لكن يستحب له ذلك، وقال أهل الظاهر يلزمه ذلك لحديث سعد هذا، ودليلنا: أن الوارث لم يلتزمه فلا يلزم وحديث سعد يحتمل أنه قضاه من تركتها أو تبرع به وليس في الحديث تصريح بإلزامه ذلك والله أعلم.