من آيات الأحكام المتعلقة بباب القضاء ما جاء في قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء:135) نقف مع هذه الآية عدة وقفات مستخلصين ما تضمنته من أحكام، وذلك تبعاً للمسائل التالية:
المسألة الأولى: القِسْط -بكسر القاف وإسكان السين-: العدل. والقَسْط -بفتحها-: الجور، والمقسط: العادل؛ لأنه عادل إلى الحق، والقاسط: الجائر؛ لأنه عادل عن الحق، يقال: أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار، قال عز شأنه: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9) وقال تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} (الجن:15).
المسألة الثانية: أمر الله سبحانه في هذه الآية وفي غيرها من الآيات عباده المؤمنين بالقيام {بالقسط} والعدل في الشهادة، ولو على أنفسهم، وهي الإقرار. ونهاهم عن العدول عن القسط، واتباع الهوى، والإعراض عن القيام بأدائها، سواء كان المشهود عليه غنياً، أو فقيراً، قريباً، أو بعيداً. وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين.
المسألة الثالثة: لا خلاف بين أهل العلم على أن شهادة الولد على الوالدين (الأب والأم) ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل من برهما أن يشهد عليهما، ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} (التحريم:6). قال ابن شهاب: كان من مضى من السلف الصالح يُجيزون شهادة الوالد والأخ لأخيه، ويتأولون في ذلك قول الله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} فلم يكن أحد يُتَّهم في ذلك من السلف الصالح، ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتُرِكت شهادة من يُتَّهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة، وهو مذهب جمهور أهل العلم أنه لا تجوز شهادة الوالد للولد، وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولاً. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أجازه، وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال إسحاق، وأبو ثور، والمزني.
قال ابن العربي: "وما روى قط أحد أنه نفذ قضاء بشهادة ولد لوالده، ولا والد لولده، وإنما معنى المسامحة فيه، أنهم كانوا لا يصرحون بردها، ولا يحذرون منها؛ لصلاح الناس، فلما فسدوا وقع التحذير، ونبه العلماء على الأصل، فظن من تغافل، أو غفل أن الماضين جوزوها، وما كان ذلك قط".
المسألة الرابعة: مذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلاً إلا في النسب، وشهادة الأخ وإن كان بينها بعضية فإنها بعيدة حقيقة وعادة، فجوزها العلماء في جانب الأخ بشرط العدالة المبررة، ما لم تجر نفعاً.
المسألة الخامسة: لا تجوز شهادة الزوج والمرأة أحدهما للآخر عند أبي حنيفة ومالك؛ لتواصل منافع الأملاك بينهما، وهي محل الشهادة، وخالف الشافعي، فقال: تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض؛ لأنهما أجنبيان؛ وإنما بينهما عقد الزوجية، وهو سبب معرض للزوال.
المسألة السادسة: قوله تعالى: {ولو على أنفسكم} أمر الله سبحانه العبد بأن يشهد على نفسه بالحق، ويسمى الإقرار على النفس شهادة، كما تسمى الشهادة على الغير إقرار.
المسألة السابعة: ألحق مالك الصديق الملاطف بالقرابة القريبة؛ فهي في العادة أقوى منها، وهي في المودة؛ فكانت مثلها في رد الشهادة.
المسألة الثامنة: روى أبو داود في "سننه" (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة، وذي الغِمْر على أخيه، ورد شهادة (القانع) لأهل البيت، وأجازها لغيرهم) قال الشيخ الألباني: حسن. قال الخطابي: (ذو الغِمْر) هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فترد شهادته عليه للتهمة. وقال أبو حنيفة: شهادته على العدو مقبولة إذا كان عدلاً. و(القانع) السائل والمستطعِم، وأصل القنوع السؤال. ويقال في القانع: إنه المنقطع إلى القوم يخدمهم، ويكون في حوائجهم، وذلك مثل الأجير، أو الوكيل، ونحوه. ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر المنفعة إلى نفسه؛ لأن (القانع) لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع، وكل من جَرَّ إلى نفسه بشهادته نفعاً، فشهادته مردودة، كمن حُكِمَ له على رجل بدين وهو مفلس، فشهد المفلس على رجل بدين، ونحوه.
المسألة التاسعة: مذهب جمهور أهل العلم أن شهادة البدوي إذا كان عدلاً، يقيم الشهادة على وجهها جائزة. وذهب مالك إلى عدم قبول شهادة البدوي على القروي، إلا أن يكون في بادية، أو قرية، فأما الذي يُشْهِدُ في الحضر بدويًّا، ويدع جيرته من أهل الحضر، فشهادته مريبة. ورَدُّ شهادة البدوي عند مالك إنما يكون فيما هو في الحقوق والأموال، أما شهادته في الدماء، وما في معناها مما يطلب به الخلق، فلا تُردُّ.
المسألة العاشرة: استدل بعض العلماء في رد شهادة العبد بهذه الآية، فقال: جعل الله تعالى الحاكم شاهداً في هذه الآية، وذلك أدلُّ دليل على أن العبد ليس من أهل الشهادة؛ لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة إليه، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلاً؛ فلذلك رُدَّت الشهادة.
المسألة الحادية عشرة: قال ابن العربي: "قوله تعالى: {إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما} أي: لا تميلوا بالهوى مع الفقير لضعفه، ولا على الغني لاستغنائه، وكونوا مع الحق؛ فالله الذي أغنى هذا وأفقر هذا أولى بالفقير أن يغنيه بفضله بالحق لا بالهوى والباطل، والله أولى بالغني أن يأخذ ما في يده بالعدل والحق، لا بالتحامل عليه، فإنما جعل الله سبحانه الحق والعدل عياراً لما يظهر من الخبث، وميزاناً لما يتبين من الميل، عليه تجري الأحكام الدنيوية، وهو سبحانه يجري المقادير بحكمته، ويقضي بينهم يوم القيامة بحكمه".
المسألة الثانية عشرة: قال بعض أهل العلم: "قوله تعالى: {ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} فسوى بين (الأقربين) و(الأبوين) في الأمر بالحق، والوصية بالعدل، وإن تفاضلوا في الدرجة؛ كما سوى بين الخلق أجمعين، وإن تفاضلوا أيضاً في الدرجة، وكأنه سبحانه يقول: لا تلتفتوا في الرحم قَرُبَتْ أو بَعُدَتْ في الحق، كونوا معه عليها، ولولا خوف العدل عنه لها لما خصوا بالوصية بها".
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
آيات الأحكام