لقد جاء هذا الدين بمشروعه الحضاري لكي يبني الدنيا ويعمرها، من أجل ماذا؟ من أجل أن تكون بيئة صالحة لعبادة الله، والعبور إلى الحياة الأبدية الخالدة، بعد يوم الحساب.. لا اصطراع ولا تناقض بين الطرفين.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها بوضوح حاسم: " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل ".. إنه الأمر النبوي بإعمار الدنيا، وزراعتها، وتزيينها حتى لحظة النفخ في الصور.
فنحن أمة قد أريد لها منذ البدء أن تنسج مشروعها الحضاري في قلب الحياة الدنيا، حيث وجدت نفسها في مثلث الفاعلية الحضارية من خلال مفاهيم التسخير والاستخلاف والاستعمار (بدلالته اللغوية لا الاصطلاحية) [هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ]، فهناك حشد من الآيات والمقاطع القرآنية تؤكد على مفهوم تسخير العالم لكي يكون بمواصفاته المرسومة بعناية مدهشة بيئة مناسبة للفعل الحضاري، يقابلها حشد آخر من الآيات يؤكد على مفهوم الاستخلاف الذي أعطى هذه الأمة مهمة قيادة البشرية والشهادة على مسيرها ومصيرها :[وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] .
عالم قد سخر لنا، نحن الذين استخلفنا عليه، من أجل أن نبنيه ونعمره لكي يكون بيئة مناسبة لعبادة الله: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ] .. وهي ليست العبادة المحددة بالشعائر المحددة ؛والمعروفة بزمن ومكان محددين، وإنما العبادة بالمفهوم الشامل في كل حركة وسكنة :[قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]..
الدنيا والآخرة معا.. ودائما.. وعندما يكون الأمر كذلك تجيئ القيادة العادلة التي تحكم العالم... القيادة التي لا تريد علوا في الأرض ولا فسادا؛ لأنها وهي تسوس الدنيا تضع الآخرة نصب عينيها.. فلا يشذ بها عمل، ولا ينحرف بها طريق، ولا تلتوي بها إغراءات القوة فتجعلها تضرب خصومها بغير رحمة، كما تفعل القيادات التي التصقت بالحياة الدنيا، وألغت الآخرة من حساباتها ..وكما فُعِل باليابانيين، والأفغان، والعراق، وغيرهم، ممن استعملت في بلدانهم حمم النار التي مازالت آثارها تلاحق الأجنة.
بل القيادة في مشروعنا الحضاري تلتزم باحترام إنسانية الإنسان، ومنظومة الضوابط الدينية والخلقية، لأنها وهي تتحرك وتنتشر في الأرض، تظل أنظارها مرفوعة صوب الآخرة، باتجاه يوم الحساب؛ لذلك كان أبوبكر الصديق يصدر أوامره إلى قادته الميدانيين :" لا تقتلوا امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرمًا، ولا تقطعوا شجَرًا مُثمرًا، ولا تُخرِّبُواَ عامرًا، ولا تَعقروا شاةً ولا بعيرًا إلَّا لمأكلة، ولا تُغرقُوا َ نخلًا ولا تحرقّوه، ولا تغللوا، ولا تجبُنوا".
إنه الفارق الكبير بين قيادتين، بل بين حضارتين ،نسيت إحداهما الآخرة فعاثت في الأرض فسادا، وتعلقت الثانية بالآخرة فأعملت معايير العدل في كل صغيرة وكبيرة، في ممارساتها السياسية والعسكرية.
ولذا كان لا بد للعالم من رجال كهؤلاء يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ولئن كانت القوة المفرطة للدول الكبرى التي رفضت الإيمان بالآخرة، فقد حجبت هذا الحق عن الأمة الإسلامية ، فحرمت بذلك نفسها ؛ قبل هذه الامة من الخير العميم الذي كان يمكن ان تنعم به البشرية، تحت ظلال قيادة كهذه ،فإن هذا الامر لن يدوم ، لأنه مناقض لقوانين الحركة التاريخية ،المؤكدة في كتاب الله:[وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ...[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] ، والعاقبة للمتقين.
- الكاتب:
مجلة المجتمع العدد2066 بـــ\"تصرف\" - التصنيف:
تاريخ و حضارة