في هذا المؤتمر الذي نظمته جامعة حمد بن خليفة بالدوحة حول سؤال النهضة، في أيام 2 إلى 4 فبراير 2019، لفت انتباهي أربعة مميزات له هي: مشاركة نخبوية معتبرة، تميز لعرض أفكار بن نبي وتنوعها، حضور نموذج لتجارب سياسية ناحجة، حضور رسمي معتبر.
ورغم أن المؤتمر عقد في قطر وهي بلد صغير، فإن نجاحه يوحي بأنه عقد في دولة كبيرة ورعاية دولية هامة. ومجرد الكلام عنه سواء بالمدح أو الذم يوحي أيضا بما له من تأثير مستقبلي على الأجيال، لا سيما وأن أعماله ستنشر بعد شهرين فقط وترسل نسخ منه إلى المشاركين فيه.
فالمشاركة النخبوية تتمثل في الكم الذي فاق الثلاثين شخصية، ممثِّلة للفئات الثلاث: شيوخ، كهول وشباب، ومميزة بالنوع الذي يتربع على تجربة عريضة في عالم الفكر والعلم بالانسان، فكلهم جامعيون ومن ذوي الخبرة الطويلة في العطاء العلمي والثقافي، وظاهرة التنوع الجغرافي، حيث كان المشاركون من أصقاع الأرض، الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا، ليبيا، مصر، تركيا، أيران، ماليزيا، أندونيسيا، نيجيريا، السودان، الولايات المتحدة الأمريكية، قطر، شبه القارة الهندية، لبنان، سوريا.
لقد كانت المشاركة نخبوية أيضا مُمَثِّلة لرأي عام شامل، ومعبر عن موقف واضح من فكر بن نبي، وشريحة معبرة تعبيرا حقيقيا عن نوعية هذا الفكر ومدى حاجة الأمة إليه؛ بل ولا تزال تحتاجه في قممها وقواعدها، وهنا تذكرت قول بعض “المُسطَّحين” من الذين يروجون لفكرة أن بن نبي تجاوزه الزمن وعلينا أن نتجاوزه نحن أيضا!! لا أن نبقى نكرر مقولاته -وكأننا فهمنا تلك الأفكار واستوعبناها- ومن ثم ندعو إلى تجاوزها..؛ لأننا لم نعد في حاجة إليها…
فليس من السهل أن تجتمع هذه النخبة على اختلاف ألسنتها وبلادها ومواقعها ومستويات تفكيرها وتقديرها، على فكرة واحدة وهي ضرورة استيعاب أطروحات بن نبي في سؤال النهضة والإجابة عليه؛ لأن هذه الشريحة لم تجتمع فيما بينها لتقرر هذا القرار، ولا يعرف أحد منهم أحدا، ولم يحاور أحد منهم أحدا من قبل، ولم يلتق أحد منهم بأحد قبل المؤتمر، ولكنهم أجمعوا على أهمية فكر بن نبي وصلاحيته إلى اليوم؛ بل وإلى المستقبل أيضا، لأن سؤال النهضة الذي طرحه منذ سبعين سنة لا يزال قائما، والإجابة عنه لم تكتمل بعد.
وربما أجابت الأمة عن بعضه في جزء من حركاتها التغييرية والإصلاحية، ولكنها لم تكتمل بعد الإجابة المفضية إلى إحداث النهضة، ولا تزال تحتاج إلى المزيد من التفكير والحركة والتدبير والوعي بالتاريخ وبالواقع الذي نعيش فيه.
أما تميز هذه النخبة في عرض أفكار مالك بن بني، فيتمثل في القدرات العالية التي يتمتع بها هؤلاء المحاضرين، فقد تجاوزت مجرد العرض والتحليل، إلى فهم المنهج وتحويل الأفكار الكلية التي تحدث عنها بن نبي، إلى تجزئتها ليسهل فهمها ونقلها إلى قيم فاعلة في المجتمعات.
لقد ذكر الأستاذ الدكتور محمد علي ميرزاني، أن بن نبي “جاء بمشروع بديل لمعالجة مشكلات الحضارة إنسانيا، وثقافيا واجتماعيا”، بل قال إنه لا يزال يفخر بابن نبي في قومه وهو إيراني، “وكنت ولا زلت أقول للإيرانيين تعلموا من بن نبي”، وعندما سئل عن الفرق بين بن نبي وعلي شريعتي، حيث عاشا في عصر واحد، قال إن منهج علي شريعتي منهج هدم وليس منهج بناء؛ لأنه رجل ثوري يهدم فقط، اما بن نبي فرجل هدم وبناء معا، حيث كان ينقد الواقع ويعطي الحلول، وكذلك رحمة بن نبي، ابنة الأستاذ رحمه الله، فعبرت عن فكرة جميلة بمثال بسيط وهادف، حيث قالت نحن المسلمون اليوم موقعنا هو المؤخرة بسبب تخلفنا، فنحن في طابور طويل، وموقعنا فيه أنا الأخيرون، “تصوروا معي لو أننا ونحن في آخر الطابور التفتنا إلى الخلف ألا نصبح نحن الأوائل؟”. لفتة رائعة، لا شك أنها لا تقصد بذلك مجرد الالتفات، وإنما تعني المقاطعة للمنهج المتبع اليوم، الابتعاد عن التقليد الذي لا يزال هو قائدنا، والالتفات إلى خصوصياتنا التي تفصلنا عن الغير الذي يريد استعبادنا… هناك نماذج كثيرة تثلج الصدر بفهومها وطروحاتها العميقة، التي تنبئ بفهم جيد لفكر بن نبي رحمه الله.
وتنوع الطرح كان متميزا أيضا، حيث أن المشاركين معظمهم من المثقفين الفاعلين وليسوا من الأكاديميين القاعدين، الذين يخاطبون الناس من وراء مكاتبهم “الراكدة” وإنما هم من الميدانيين الذين يطمحون لأن تصبح بلادهم خالية من الفقر والجهل وسائر معاني التخلف، لتقود العالم إلى رحمة الله الواسعة، وإلى السعادة والفوز.
ولعل الأستاذ الدكتور الطيب برغوث يمثل في هذه الكوكبة من العلماء والباحثين، جوهرة هذا المؤتمر؛ لأن محاضرته كانت هي المحاضرة الافتتاحية، وشملت المنهج الذي انطلق به بن نبي في مشروعه النهضوي، وقبل عرضي لما تميز به عن غيره، أشار الأستاذ الطيب إلى أن فكر بن نبي يمثل –في خريطة الأفكار- جسر عبور حضاري بين الأصالة والمعاصرة، وتعايش بين اللغات، حيث كان يكتب عن الحضارة الإسلامية باللغة الفرنسية، وهو –أي فكر بن نبي- ليس بداية ولا نهاية للاجتهاد.
ثم عرج على الإجابة المنهجية عن سؤال النهضة كما يراها بعرض موجز لمشروعه تعميم المعرفة والثقافة السُننية، بالكلام عن كليات سننية أربع وهي: كلية سنن الآفاق، المتعلقة بالقوانين الناظمة لعالم المادة، وكلية سنن الأنفسٍ، الناظمة لقوانين عالم الإنسان النفسي والاجتماعي، وكلية سنن الهداية، المتعلقة بأحكام الشرع وكلية سنن التأييد، المتعلقة بالفعل الإلهي وأثره في حركة الإنسان وتفاعله مع الطبيعة.
ويضاف إلى تلك الكتلة الهائلة من العلماء والباحثين، ومستواها في العرض والتحليل والقناعة والإقناع، حضور نماذج لتجارب سياسية ناحجة في العالم الإسلامي، متمثلة في: أنور إبراهيم رئيس الوزراء الماليزي المحتمل، وداوود أوغلو وزير الخارجية ورئيس الوزراء التركي الأسبق، وراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية.
والجامع بين هذه الشخصيات أنها عرفت مالك بن نبي معرفة مباشرة وغير مباشرة، واستفادت من فكره وتجربته النضالية كثيرا. وقد صرحوا بذلك بعبارات مختلفة، مفادها كلها أن فكر الرجل يمثل فكر المرحلة، بحيث من أخذ به أخذ بحظ وافر من أسباب الفوز والنجاح، ومن تجاهله لا يمكنه أن يفهم الواقع كما هو، كما عبر عن ذلك داوود أوغلو في مداخلته، حيث ذكر أن العالم الإسلامي مر بثلاث أزمات كبرى وهي: غزو المغول، الحروب الصليبية، والإستعمار الغربي لبلاد المسلمين.
وأزمة الاستعمار الغربي كانت هي الأخطر، حيث احتل الأرض والعقول ولم يكتف باستعمار الأرض كما الحال في الاستعمارات القديمة، ومالك بن نبي استطاع الكشف عن خطورة هذا النوع من الاستعمار بمصطلحه المعروف “القابلية للاستعمار”، الذي استثمر فيه الغرب كثيرا ولا يزال، وبتحويل العلم إلى فهم لاصق بالشخصية؛ بل إن الشيخ راشد الغنوشي قال: نحن أكثر من استفاد من فكر بن نبي في حركة النهضة. أما أنور إبراهيم فقد وصف فكر بن نبي بالفكر العميق والمتفرد، من حيث هو رحلة جديدة في المجتمع، انطلاقا من الكفاح الداخلي للفرد والمجتمع إلى بناء الواقع، بتدفق للفكر الحر المفضي إلى التمكين الثقافي؛ بل رأى أنور إبراهيم أن الفكر “البن نبي” ينتقل إلى المجتمعات بسلاسة، بحيث لا يعلم كيف انتقلت أفكاره وطغت فيها، وبتلقائية تامة متناغمة مع طاقات الإنسان وحاجاته.
وما يلفت الانتباه أيضا وربما هو أول ملفت في هذه المناسبة هو الحضور الرسمي للشيخة موزا، وهو حضور معبر، حيث أن دولة قطر والأسرة الحاكمة يومها كانت تحتفي بفوزها الرياضي على اليابان، وربما كان الشعب القطري ومؤسساته الرسمية كلها بالمطار وبالشوارع للتعبير عن الفرحة في جو من الحصار الخانق.. في هذا الواقع تنتقل الشيخة موزا بما لها من ثقل في المجتمع والدولة إلى جامعة حمد لحضور الإفتتاح الرسمي لمؤتمر سؤال النهضة.. فهو حضور له رمزيته في تقديري، وإن كان ذلك ليس غريبا على شخصية تقدر العلم وترفع من شأن العلماء والتربية والتعليم في بلادنا كما علمنا ذلك من أهل البلاد والمقيمين بها.
- الكاتب:
التهامي مجوري - التصنيف:
ثقافة و فكر