لكل مُنجَز ومَنال مقدمات وعوامل تبلّغ إليه، فالعلم مثلا لا يحصل بالأماني ولا الخيالات أو الأحلام، وإنما بأمور إذا استجمعها الطالب بلغ مراده، وحقّق مقصوده.!
• واشتهر بيتان للإمام محمد بن إدريس الشافعي(٢٠٤)هـ رحمه الله، ضمّنها (سداسية تحصيل العلم)، يقول فيهما :
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبيك عن تفصيلها ببيانِ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبُلغةٌ... وصحبةُ أستاذٍ وطولُ زمانِ
• والإمام هنا رحمه الله يجعل قانونا سليما لبلوغ العلم، ومقدمات لابد منها، ومقومات يتعين ركوبها وامتطاؤها، وهي مما نص عليه حذاق العلماء، وربما يخالفه بعضهم في عدها أو أسمائها، ولكنها شبه متفق على أكثرها.
• وهما مع اشتهارهما ، قليل من الطلاب من يمتثل طريقها، أو يطبق قانونها، فيأخذها بمأخذ الجد، ويشحذ همته للعمل بموجبها، لأن العلم أعلا المراتب، وأنبل المقاصد، ولا يوصل إليه إلا على جسر من التعب، ومطايا من النصب والتصبر، وفِي الحديث الصحيح "ومن يتصبر يصبّره الله". وهذه العوامل السداسية أسس الفوز والبلوغ والتحصيل قال أبو تمام الطائي :
بصرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها... تُنال إلا جسر من التعبِ.
فأولاها : الذكاء المولّد لليقظة وسرعة الفهم وبُعد البلادة، بحيث لا يشق المحفوظ، ولا يتعسر المفهوم، أو يستبطئ المدروس، فمن لم يتوفر له حد أدنى من الذكاء والوعي عز عليه العلم، وانكشف له الحال، بأن العلم ليس مجاله، ولا محل وجوده وراحته، ولكن هذا الذكاء لا يجدي بلا زكاء وتقوى، لأنه قد يورث المهالك، إذ كم من ذكي عمي عن الحق، أو خالطه الهوى، أو كبّه ذكاؤه على وجهه في مهاوي الردى؛ وقد قال الأئمة في أبي العلاء المعري الشاعر المعروف ونظرائه ( كان ذكيا ولَم يكن زكيا ).!
ثانيها : حرص بليغ على جمع العلم، وحيازة الكتب، وصون الوقت، والتقاط الفرائد، ولمّ الدرر، اهتماما ورغبةً، بحيث يقال له : فلان حريص ، وشخص جاد، وعنصر متوقد، كما قال الحافظ ابن عقيل رحمه الله في كلمته المشهورة:(إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملتُ فكري في حالة راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطَر لي ما أسطّره)
فهنا تلحظ اغتنام الأوقات، وتخفيف الأكل، واختيار ما لا يضيع وقتا، أو يرهق جسدا.
ثالثها: اجتهاد متين لا يعرف الكلل، ولا يطل عليه الملل، فهو في دأب، وجد وسهر، وسفر،.... يؤثر العلم على الراحة، والتعب على الطرب، والبحث على اللغو والمزاح، مستفرغا الوسع، وباذلا بلا تقصير، قال تعالى : [خذوا ما آتيناكم بقوة ] سورة البقرة ،وقد قال الإمام يحي بن أبي كثير رحمه الله: (لا يُستطاع العلم براحة الجسد). وكان الإمام البخاري رحمه الله يستيقظ في الليلة، قرابة عشرين مرة، حتى أخرج لنا هذا الصحيح الذهبي والسفر الباهي الزكي.
رابعها: بُلغة كافية تسد الحاجة، وتكف السؤال، وتمنع الانشغال، وتجعل طلاب العلم في مأمن من الشحاذة والفقر والاستجداء، وتعين على القُنية العلمية، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله في أدب المفتي: على الاستغناء عن الناس، وقال سفيان الثوري رحمه الله لما شوهدت الدنانير في يده، كما في الحلية وغيره ، أنه جاءه رجل فقال : يا أبا عبدالله تُمسك هذه الدنانير؟!
فقال : (اسكُت لولا هذه الدنانير لتمندل بنا هؤلاء الملوك)(أي جعلونا كالمناديل في أياديهم).! وقد يفتقرون أحيانا بسبب ضغوطات الحياة ومصاعبها ، فيصبرون، وعلى ربهم يتوكلون، ويعدون الفقر أسلم وأعون على العلم من الغنى والترف، حتى قال القائل :
قلت للفقر أين أنت مقيمٌ... قال في عمائم الفقهاءِ
إنّ بيني وبينهم لإخاءً ... وعزيز عليّ قطع الإخاءِ
وقال ابن القيم في أعلام الموقعين (4/204) : (وقد كان لسفيان شيء من مال، وكان لا يتروّى في بذله، ويقول : لولا ذلك لتمندل بنا هؤلاء) . فالعالم إذا مُنح غناءً فقد أعين على تنفيذ علمه، وإذا احتاج الناسَ فقد مات علمه وهو ينظر.! يقصد أنه مضطر للعلم والشغل التجاري الصارف عن التدريس والمراجعة ونفع الخلائق.
خامسها: صحبة أستاذ المتمثل في شيوخ العلم، وأقطاب الفقه، وصيارفة المعرفة، لأنهم كالأطباء تشخيصا، والدلائل طريقا، والبراهين إقناعاً، والشموس إضاءة، قال موسى في قصته مع الخضر عليهما السلام [هل أتّبعك على أن تُعلّمنِ مما عُلّمتَ رُشدا] سورة الكهف . فهم يعينون على الفهم، ويثبّتون على الجادة، ويذللون الصعاب. وقال السلف في حكمتهم الرائعة: (من دخل العلم وحده، خرج وحده). ومن ثَم حذّروا من اللياذ بالكتب دون شيوخ، ومن حفظها بلا اتعاظ وتفقه، قال الشافعي رحمه الله: (من تفقه من بطون الكتب، ضيّع الأحكام). واتسعت المقولة الأخرى (من كان شيخُه كتابَه، كان خطؤه أكثرَ من صوابه)!
سادسها: طول زمان: ويعنون بها الخبرة والممارسة، والتدريب العلمي على الدرس والإلقاء والحوار، وسرد المطولات، والمناظرات والاستنباطات والتأليفات والكتابة، بحيث يتحقق معها النضج وبلوغ الحكمة، وعدم الحماس والاستعجال، قال تعالى:[وكان الإنسان عجولا] سورة الإسراء . وقال عليه الصلاة والسلام لأَشجّ عبد القيس : "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
والدليل على ذلك اختيارات المرء في أول حياته، تغاير اختياراته بعد سن النضج والدراية، حتى على المستوى الدنيوي، فكيف بالعلم الأخروي المقرب إلى الله تعالى ؟!
واذا انضاف الى ذلك حب ظهور وإعجاب قبل التمكن والتحقق كان خيبة على صاحبه، وقَالَ سحنون بْنُ سَعِيدٍ المالكي رحمه الله : (أَجْسَرُ الناس على الْفُتْيَا أقلّهم علما، يكون عِنْدَ الرجل الْبَابُ الواحد مِنْ الْعِلْمِ، يظن أَنَّ الحق كله فيه).
وكم من عالم وطالب، تراجع عن كتب وفتاوى واختيارات ومواقف، بسبب مرحلته العمرية، وتوقيعه المبكر، وحينما بلغ أشده، ونال رشده، وأتم عمقه، ظهرت له تراجعات وأحيانا ندامات.!!
ومن ذلك أئمة أجلة تأسفوا من استعجالهم، أو عدم تحريرهم بسبب الضيق والانشغال، فكيف بطلاب زماننا؟
وعلى سبيل التمثيل هنا: تعقبات العلامة الذهبي على الحاكم رحمهما الله في تلخيصه للمستدرك، ورواجها بين طلاب العلم، وقد أثنى هو وقسّم الكتاب، ثم قال كما في ترجمة الحاكم في السير (وبكل حال فهو كتاب مفيد قد اختصرته ، ويعوز عملا وتحريرا).
والحافظ ابن حجر مع كثرة تصانيفه فقد قال في آخر حياته كما نقله تلميذه السخاوي رحمه الله : (لستُ راضياً عن شيء من تصانيفي؛ لأني عملتها في (ابتداء الأمر)، ثم لم يتهيأ لي مَنْ يُحرِّرُها معي، سوى: شرح البخاري، و مقدمته، والمشتبه، والتهذيب، ولسان الميزان، وأما سائر المجموعات فهي كثيرة العَدَد واهية العُدَد، ضعيفةُ القُوى، ظامئة الرُّوى).
فهذان نموذجان تؤكدان أهمية الطول الزماني والخبرة المعرفية للمرء، بحيث يسلم الاعتراض والتذبذب، وكثرة الملام، وقد قيل:(من تعجل شيئا قبل أوانه، فقد تصدى لهوانه). وفِي معنى ذلك ومناحيه: الفتاوى المستعجلة، والمواقف الحماسية، واندفاعات الشباب الصغار، والنشرات غير المنقحة، حتى لو زعموا ما زعموا، وقد بدا عليها ضعف الاستدلال، أو قلة الخبرة، أو شغل حُطاب الليل؛ لأن العلم عزيز نفيس، ولا يحسن يؤديه إلا الأعزة الكَملة، كما قال تعالى :[فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون] سورة النحل.
وأهل الذكر هم من اكتملوا علما وفهما، وأتقنوا وعيا ودراية... ومن فائدة طول الزمان العلمي: (تحقيق الملَكة) في العلوم، وهي التي تعني الهضم وحسن الدراية والإحاطة بفن من الفنون رسوخا وإبداعاً.
فجزى الله الإمام الشافعي رحمه الله على حسن التوجيه ورسم المسار، ودلالة الطريق، ولكن من يتعظ ويبادر بلا تردد أو اضطراب ؟! والله ولي التوفيق.