كثيرا ما يتداول المثقفون و الدارسون و عموم المتعلمين و سائر الناس مفهوم المثقف على أساس مغلوط، و مجانب للفهم الصحيح، و العلمي وعلى أساس السيرورة التاريخية لمختلف التشكيلات الاقتصادية والاجتماعية. فمنهم من يتعامل مع المثقف على أنه المتعلم الحامل لدرجة علمية-دراسية معينة. و منهم من يتعامل معه على أنه هو الذي يفهم و يعرف، و منهم من ينظر إليه على أنه هو المنتج للفكر … الخ.
و نحن هنا سوف لا نركز على دلالات المفهوم حسب ما ذهب إليه الدارسون، لأن ذلك قائم فعلا في العديد من الدراسات التي تفرغ أصحابها لدراسة الموضوع دراسة علمية دقيقة.
و هذه الدراسة ، حتى وإن أعطت للمفهوم ما يجب من تمحيص، إلا أنها تبقى سجينة الواقع الأكاديمي، و العقلية الأكاديمية ورفوف المكتبات بدل أن تتحول إلى واقع ملموس يتطور، ويتحول بفعل الثقافة والمثقفين. بل إن ما نذهب إليه ببساطة هو أن المثقف هو الذي امتلك القدرة على إنتاج وسائل إنتاج القيم الاجتماعية والإنسانية التي تلتصق بالحياة العامة، وبالحياة الفردية، فتعمل على تطويرهم على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية بما يتناسب مع التحولات الاقتصادية الاجتماعية نحو المرحلة الأرقى.
و مثقف هذه هويته لابد أن يسعى بثقافته إلى نشر قيم الدين والحرية والعدالة الاجتماعية والإنسانية.
..
المثقف:
فماذا نعني بالمثقف ؟ وهل المثقف هو المتعلم ؟ هل هو الحامل لشهادة علمية معينة ؟ هل هو المنتج للمعرفة الأكاديمية ؟ هل هو الموظف السامي ؟ هل هو رجل السلطة ؟ هل هو رجل الأعمال ؟ هل هو الأديب أو الفنان أو المسرحي السينمائي ؟
إننا عندما نقف على الحقيقة العلمية لهذه المفاهيم موضوع الأسئلة سوف نجد أنفسنا أمام حقيقة مهولة عندما نقوم بالتفريق بين المتعلم والمثقف، و بناء على ذلك فالمتعلم قد يكون مثقفا، وقد يكون غير مثقف، و المثقف قد يكون متعلما أو غير متعلم. ونفس الشيء نقوله بالنسبة لحاملي الشهادات العلمية مهما كانت درجتها كما نقوله في الموظفين مهما كان سلم ترتيبهم، و في رجال السلطة مهما كانت مسؤوليتهم، و في رجال الأعمال مهما كانت استثماراتهم. و نعتبر أن كل ذلك قد يخدم الثقافة من وجهة نظر معينة إذا كان هؤلاء مثقفون فعلا، و كون الإنسان من عامة الناس أو من الكادحين لا يمنع صيرورته مثقفا إذا كان منتجا للقيم الثقافية.
وعليه ينبغي أن يكون المثقف مشتملا على الصفات التالية:
1- أن يكون منتميا إلى الفئة المتمثلة للقيم الاجتماعية و الإنسانية و الاقتصادية و الثقافية و المدنية و السياسية، و هم الغالبية العظمى من الناس.
2 - وأن يكون منتميا للقيم المختلفة بوسيلة معينة، وهؤلاء غالبا ما يكونون قلة قليلة جدا من المجتمع، سواء تعلق الأمر بموظفي وسيلة الأدب، أو وسيلة الفنون، أو الفكر، أو غيرها من الوسائل التي تعمل على إنتاج القيم، أو على إشاعتها بين البشر. وبناء على هذا التمييز و التحديد الذي نريده واضحا. فهل يمكن القول بأن المثقف هو المنتج للقيم المساهمة في بلورة الشخصية الاجتماعية والإنسانية المتناسبة مع السلوكيات العامة الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية المتطورة، والسائدة في إطار تشكيلة اقتصادية اجتماعية معينة. و المساعدة على انتقال تلك التشكيلة إلى المرحلة الأرقى.
و بناء على هذا الفهم المحدد، و الذي تبلور لدينا من خلال تعاطينا مع أشكال الفهم الأخرى التي قد يعتمدها هذا المثقف أو ذاك، أو يروج لها هذا المنبر أو ذاك. فإن المطلوب في المثقف أن يكون :
أ - خبيرا بالقيم الإيجابية و السلبية المتصارعة في المجال الاجتماعي محليا، ووطنيا، وقوميا وعالميا، حتى يستطيع تحديد القيم التي يستهدف إزالتها و نفيها من الواقع في أبعاده المختلفة. و ما هي القيم التي يقبل على إنتاجها أو إشاعتها من اجل المساهمة في تقويم الشخصية الاجتماعية والإنسانية، والعمل على تطويرها من أجل جعلها مساهمة في تطور وتطوير الواقع في مختلف مناحي الحياة.
ب - متتبعا للحركة الثقافية المحلية والوطنية، والقومية والعالمية من أجل إغناء خبرته، حتى تزداد صلابة أمام تحديات عناد الواقع الذي يبقى أسير الرؤى الجاهزة القائمة على استحضار سلطة العادات والتقاليد والأعراف.
ج - متشبعا بالقيم الناتجة عن استيعاب مضامين دينه ومطلعا على المواثيق الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية. والميثاق الدولي المتعلق بحقوق الطفل، وتوظيف تلك القيم من أجل العمل على إبداع قيم جديدة تتناسب مع ضرورة تحولات التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية في الاتجاه الأحسن في أفق تحقيق المرحلة الأعلى.
هـ - مستفيدا من مختلف التجارب الثقافية في حياة الشعوب حتى يسترشد بالجوانب الإيجابية في إغناء الثقافة المحلية والوطنية والقومية والإنسانية بالمزيد من القيم التي تساعد على تطوير المجتمعات البشرية والعلاقات الإنسانية، و ترسخ القيم النبيلة في السلوك الفردي و الجماعي في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية مما يجعله يحتل مكانة ممتازة في المجتمع الذي يعيش فيه، و لدى الطبقة التي يصنَّف فيها على المستوى الاجتماعي، وفي التنظيمات الحزبية والجماهيرية التي ينتمي إليها.
فالمثقف، و بهذا المفهوم الذي عرضناه، إذا لم يكن خبيرا بالقيم الإيجابية و السلبية، و متتبعا للحركة الثقافية على المستويين الخاص والعام، ومتشبعا بالقيم الناتجة عن استيعاب المواثيق الدولية المتعلقة بالحقوق العامة، و بالحقوق الخاصة، ومستفيدا من تجارب الشعوب الثقافية المختلفة، لا يكون قادرا على المساهمة الفعالة في محاربة القيم الثقافية السلبية، وفي العمل على بناء منظومة القيم الثقافية الإيجابية، أي أنه لا يستطيع بناء وعي ثقافي متقدم ومتطور، ويخدم عملية التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي في الاتجاه الذي يخدم حركة التاريخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأستاذ/ محمد حنفي بـــ "تصرف في المقال"