الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد

يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد

يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد

من آداب دخول المسجد التنظف، ولبس أحسن الثياب، وهو ما أرشد إليه قوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف:31) نقف في السطور التالية مع سبب نزول هذه الآية.

أخرج الإمام مسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُرْيانة، فتقول: من يعيرني تطوافاً؟ -تجعله على فرجها- وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}.

هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد المفسرون هذا الحديث وغيره في معناه، وجعلوه سبب نزولها منهم؛ الطبري، والبغوي، وابن العربي، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور.

قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرون عند طوافهم ببيته الحرام، ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب، والمحرمين منهم أكل ما لم يحرمه الله عليهم من حلال رزقه تبرُّراً عند نفسه لربه {يا بني آدم خذوا زينتكم} من الكساء واللباس".

وقال البغوي: "قال أهل التفسير: كانت بنو عامر يطوفون بالبيت عراة، فأنزل الله عز وجل: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} يعني الثياب".

وقال ابن العربي: "قيل: إنها نزلت في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، أُمروا باللباس وستر العورة، قاله ابن عباس وجماعة معه" ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما".

وقال القرطبي: {يا بني آدم} هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عرياناً..." ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

وقال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عراة..." ثم ساق الحديث إلى أن قال: "وهكذا قال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، والضحاك، ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة".

وقال ابن عاشور: "فالمقصد من قوله: {خذوا زينتكم} إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التعري في الحج في أحوال خاصة، وعند مساجد معينة..." ثم ساق سبب النزول.

وقد ذكر ابن العربي سبب فعل الجاهلية ذلك فقال: "إن قريشاً كانت رأت رأياً تكيد به العرب، فقالوا: يا معشر قريش! لا تعظموا شيئاً من البلدان لتعظيم حرمكم، فتزهد العرب في حرمكم إذا رأوكم قد عظمتم من البلدان غيره كتعظيمه، فعظموا أمركم في العرب، فإنكم ولاة البيت وأهله دون الناس، فوضعوا لذلك الأمر أن قالوا: نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لنا أن نعظم غيره، ولا نخرج منه، فكانوا يقفون بالمزدلفة دون عرفة؛ لأنها خارج من الحرم، وكانت سُنَّة إبراهيم، وعهداً من عهده، ثم قالوا: لا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا، ولا يأكل الأقط -لبن محمض يجمد حتى يستحجر، ويُطبخ، أو يُطبخ به- ولا يستظل بالأُدْم إلا الحُمْس -وهم قريش وما ولدت من العرب، ومن كان يليها من حلفائها من بني كنانة- فكان الرجل من العرب، أو المرأة يأتيان حاجَّين، حتى إذا أتيا الحرم وضعا ثيابهما وزادهما، وحَرُمَ عليهما أن يدخلا مكة بشيء من ذلك، فإن كان لأحد منهم صديق من الحُمْس استعار من ثيابه، وطاف بها، ومن لم يكن له صديق منهم، وكان له يسار استأجر من رجل من الحُمْس ثيابه، فإن لم يكن له صديق ولا يسار يستأجر به، كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عرياناً، وإما أن يتكرم أن يطوف بالبيت عرياناً، فيطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم يمسه، ولا يمسه أحد من الناس، فكان ذلك الثوب يسمى اللَّقَى، وإن كانت امرأة ولم تجد من يعيرها ولا كان لها يسار تستأجر به، خلعت ثيابها كلها إلا درعا مفرداً، ثم طافت فيه، فقالت امرأة من العرب -كانت جميلة تامة ذات هيئة- وهي تطوف:

اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله

فكانوا على ذلك من البدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل فيمن كان يطوف بالبيت عرياناً: {يا بني آدم خذوا زينتكم} ووضع الله ما كانت قريش ابتدعت من ذلك، وقد أنزل الله في تركهم الوقوف بعرفة: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (البقرة:199) يعني بذلك قريشاً، ومن كان على دينهم" انتهى ما ذكره ابن العربي.

وحاصل ما تقدم: أن سبب نزول الآية الكريمة ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لصحة إسناده، واعتماد المفسرين عليه، وموافقته لسياق القرآن، وتصريحه بالنزول.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة