ذكر أهل اللغة والبيان أن صيغة (فعيل) تأتي بمعنى (مُفْعِل) بكسر العين، وبمعنى (مُفْعَل) بفتح العين، واستشهدوا لذلك بقول الأعشى يذكر قصيدته التي قالها:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها
أي: مُحْكَمَةٌ.
وقول عمرو بن معديكرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
أي: موجع.
وقوله أيضاً:
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
فـ (السميع) بمعنى: الْمُسْمِعِ.
وقول غيلان:
ويرفع من صدور شَمَرْدَلَاتٍ يَصُكُّ وجوهها وهج أليم
أي: مؤلم.
وذكر أهل اللغة أن (فعيل) بمعنى (مفعَل) قليل، قد جاءت منه ألفاظ، قالوا: عقدتُ العسل فهو عقيد ومُعْقَد. وقال الأزهري: هو شائع في اللغة.
وقد ذكر المفسرون مجيء صيغة (فعيل) بمعنى (مُفْعِل) بكسر العين، وبمعنى (مُفْعَل) بفتحها في مواضع من القرآن الكريم، ننظمها وفق التالي:
أولاً: مجيء صيغة (فعيل) بمعنى (مُفْعِل) بكسر العين
جاء وَفْق هذه الصيغة جملة من الآيات، نذكر منها:
قوله تعالى: {ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} (البقرة:129) {الحكيم} بمعنى المـُحْكِم المتقن للمصنوعات، هو فَعِيلٌ بمعنى مُفْعِل.
ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} (البقرة:209) (الحكيم) يجوز أن يكون اسم فاعل من حكم، أي: قوي الحكم، ويحتمل أنه المـُحْكِمُ للأمور فهو، من مجيء فَعِيلٍ بمعنى مُفْعِل، قال ابن عاشور: "ومناسبته هنا: أن المتقن للأمور لا يُفْلِتُ مستحق العقوبة، فالكلام وعيد، وإلا فإن الناس كلهم يعلمون أن الله عزيز حكيم".
ومنه أيضاً قوله سبحانه: {وقل إني أنا النذير المبين} (الحجر:89) {النذير} بمعنى المنذر، فَعِيلٌ بمعنى مُفْعِل، مثل الحكيم بمعنى المـُحْكِم، وضرب وجيع، أي: مُوْجِِع. ونحوه قوله عز وجل: {ألم يأتكم نذير} (الملك:8) (النذير) بمعنى المنذر، وهو المخبر بسوء يقع. ومنه قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} (الفرقان:1).
ومن هذا الباب أيضاً قوله سبحانه: {بديع السماوات} (البقرة:117) {بديع} بمعنى مُبْدِع. قال الخطابي: البديع، فعيل بمعنى مُفْعِل، ومعناه: أنه فطر الخلق مخترعاً له لا على مثال سبق.
ومنه قوله سبحانه: {وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا} (مريم:13) (تقيٌّ) فَعِيلٌ بمعنى مُفْعِلٍ، من اتقى إذا اتصف بالتقوى، وهي تجنب ما يخالف الدين.
قوله سبحانه: {ذوقوا عذاب الحريق} (آل عمران:181) {الحريق} معناه المحرِق، وهو فَعِيْل بمعنى مُفْعِل.
قوله عز وجل: {أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} (الأنعام:70) {أليم} فعيل بمعنى مُفْعِل، أي: مؤلم. ونحوه قوله تعالى: {ولهم عذاب أليم} (البقرة:10) {أليم} أي: مؤلم.
قوله تعالى: {والله بما تعملون بصير} (البقرة:265) (البصير) من أسماء الله تعالى، معناه: المبصر. قال الخطابي: وهو فعيل بمعنى مُفْعِل.
قوله سبحانه: {والله عزيز ذو انتقام} (آل عمران:4) قيل: هو بمعنى المعِزّ، فعيِل بمعنى مُفْعِل، بيانه قوله عز وجل: {وتُعز من تشاء} (آل عمران:26).
ثانياً: مجيء صيغة (فعيل) بمعنى (مُفْعَل) بفتح العين
جاء وفق هذه الصيغة عدد من الآيات، نذكر منها:
قوله تعالى: {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} (يونس:1) قال مقاتل: {الحكيم} بمعنى (المحكَم) من الباطل، لا كذب فيه ولا اختلاف، والمـُحْكَم بالحلال والحرام، والحدود والأحكام، فَعِيلٌ بمعنى مُفْعَل؛ بدليل قوله سبحانه: {الر كتاب أحكمت آياته} (هود:1). ونحوه قوله عز وجل: {فيها يفرق كل أمر حكيم} (الدخان:4) أي: مُحْكَم. ومثله أيضاً قوله تعالى: {والقرآن الحكيم} (يس:2) {الحكيم} المـُحْكَم، فيكون فعيل بمعنى مُفْعَل، أي: أحكم في مواعظه، وأوامره، ونواهيه.
ومن ذلك قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاف مهين} (القلم:10) (المهين) الوضيع؛ لإكثاره من القبيح. وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة. وهي هنا القلة في الرأي والتمييز. أو هو فَعِيلٌ بمعنى مُفْعَل، والمعنى مهان.
ومنه غير ما تقدم قول الباري سبحانه: {وقال قرينه هذا ما لدي عتيد} (ق:23) {عتيد} أَي: مُعْتَد.
وبما تقدم من أمثلة قرآنية، وبما ذكره المفسرون يظهر أن مجيء صيغة (فعيل) بمعنى (مُفْعل) بكسر العين وبفتحها، جاء في مواضع عدة من القرآن الكريم، حريٌّ بقارئ القرآن أن يتنبه لها، وأن يكون على بيِّنة من أمرها.