كثيرا ما نسمع بعض الناس يتأفف من تكاليف الدين ويصيح: الدين ثقيل.. الدين صعب.. تزمت .. تشدد.
وعلى الوجه الآخر تسمع أناسا يقولون: الدين يسر.. الدين سهل.. الدين سماحة.
وكثيرا ما يكون مراد هؤلاء وهؤلاء التفلت من تكاليف الدين وأوامره.. الأول يبرر لنفسه تفلتها بزعم صعوبة الدين.. والآخر يبرر لنفسه تهاونه وعدم اهتمامه بحجة يسر الدين وسماحته.
والحق أن دين الإسلام دين الجد والنشاط والقوة، وهو أيضا دين اليسر والسماحة:
هو دين الجد والقوة.. فلا مكان فيه للعبث والكسل والهزل، فكل ما فيه يدعو أصحابه لأن يكونوا أرباب جد لا هزل كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13-14].
وهو دين اليسر والسماحة فقد أتى بالحنيفية السمحة، وأراد بأتباعه اليسر لا العسر ـ ولكن في حدود أوامره وشعائره وشرائعه ـ {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.
فهو جامع بين الجد والقوة، لكنه جد بلا تشدد ولا تنطع ولا تهوك.. وبين اليسر والسماحة، ولكنه يسر بلا تهاوي ولا تخاذل ولا تفلت.
خُذِوا الْكِتَابَ بقوة
وفي كتاب الله مواطن كثيرة يأمر الله فيها عباده بأن يكونوا جادين ويأخذوا كتاب الله وأوامره على محمل الجد وأن يأخذوها بقوة.. كما قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بقوة}(مريم:12).. ويحيى هو يحيى بن زكريا عليهما السلام، والكتاب هو التوراة كما جاء في كل كتب التفسير.
قال ابن كثير: "علمه (الله) الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً، فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} أي تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد.
وقد كان يحيى منذ صباه وصغره مقبلا على العبادة مجتهدا في العلم والعمل، قال عبد اللّه بن المبارك: "قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما لّلعب خلقنا".. ولهذا قال الله في حقه: {وآتيناه الحكم صبيا}.. أي الفهم والعلم والجد والعزم ، والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث.
وقال الإمام القرطبي في تفسيره:{الكتاب} التوراة بلا خلاف. (بقوة) أي بجد واجتهاد؛ قاله مجاهد. وقيل العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لأوامره، والكف عن نواهيه؛ قاله زيد بن أسلم".
فخذها بقوة:
وموسى عليه السلام أخبر الله سبحانه وتعالى أنه كتب له في الألواح (التوراة أو غيرها) من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوعِظَة وتَفصِيلاً لكلّ شَيْءٍ}(الأعراف:145) كتب فيها مواعظ وأحكاماً مفصلة، مبينة للحلال والحرام، (كما يقول ابن كثير).
وقال الطبري رحمه الله: "كَتَبْنَا لِمُوسَى فِي أَلْوَاحه مِنْ التَّذْكِير وَالتَّنْبِيه عَلَى عَظَمَة اللَّه وَعَزَّ سُلْطَانه، وَمِنْ أَمْر بِالْعَمَلِ بِمَا كَتَبَ فِي الْأَلْوَاح، وَتَبْيِينًا لِكُلِّ شَيْء مِنْ أَمْر اللَّه وَنَهْيه".
وقال الشيخ الشعراوي عليه رحمة الله: قوله سبحانه {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ} يعني: من كل شيء تتطلبه خلافة الإِنسان في الأرض في هذا الوقت.
والمقصد أن الله كتب له في التوراة والألواح وبين له منهجه وشرعه، وأوامره ونواهيه، ومراده من خلقه.. ثم بعد ذلك أمره بأن يأخذ كل ذلك بالجد والعزم والقوة. فقال سبحانه: {فخذها بقوة} أي بعزم على الطاعة... قال ابن عباس: أمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد ما أمر قومه. وهذا تماما كقوله سبحانه ليحيى عليه السلام {خذ الكتاب بقوة}.
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ
وقد أمر الله أهل الإيمان على مدار الأزمان بأن يأخذوا ما آتاهم الله بقوة، وأن يعملوا به بجد واجتهاد؛ كما قال لبني إسرائيل {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تتَّقُونَ}(البقرة:63)
قال قتادة والسدي: (بقوة)، يعني: بجد واجتهاد.
قال ابن جرير رحمه الله: "خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة، بجد".
وقال الشعراوي رحمه الله: {خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ} أي لا تأخذوا التكليف بتخاذل.. والإنسان عادة يأخذ بقوة ما هو نافع له.. ولذلك فطبيعة مناهج الله أن تؤخذ بقوة وبيقين.. لتعطي خيرا كثيرا بقوة وبيقين..
لكن لماذا يأمر الله بأخذ الكتاب بقوة؟
إن مناهج الله تعالى تأتي دائما بما يخالف عوائد الناس وإلفهم وما نشؤوا عليه من عقائد باطلة وأخلاق فاسدة، كما أنها تخالف أهواء الناس ومستحبات نفوسهم وميلهم إلى إشباع رغباتهم والتوسع في شهواتهم.. ولهذا حين يؤمر الإنسان أمراً قد يكون الأمر مخالفاً لرتابة ما ألف، وحين يُنهي نهيا قد يكون مخالفاً لرتابة ما ألف. ومخالفا لما اعتاد عليه فعند ذلك يحتاج إلى قوة نفس تتغلب على الشهوة الرتيبة التي تخلقها العادة.
وقد يكون الأمر والنهي مخالفا أيضا لهوى النفوس ومحبوباتها كما هو في غالب تكاليف الشرائع والمناهج الربانية كالجهاد بالنفس وتعريضها للموت، والأمر بالزكاة والصدقة والنفقة في سبيل الله وهو خروج من المال للغير، وهو من أشد محبوبات النفس، وكذلك الصيام وما فيه من مشقة، والصلوات ومعاناة الوضوء بالماء البارد في اليوم الشديد القر، أو الاستيقاظ للصلوات في هجعة الليل كصلاة الفجر.. وكذلك مغالبة الشهوة ومقارعة النفس في تناول ما قد تحبه من الحرام ..
كل ذلك يحتاج لا شك إلى قوة وعزيمة وجد في مواجهة المألوفات والعادات والأهواء.. ولذلك كان الأمر بأخذ الكتاب بقوة.
إن أتباع الرسالات وأهل الدين وكل من يريد أن يقبل على منهج الله، عليهم أن يعرفوا أن المنهج سوف يخرجهم مما ألفوا، ومن كثير مما يهوون ويحبون، ولابد أن يقبلوا على المنهج بقوة وعزم ليستطيعوا أن يتغلبوا على العادة والهوى. لا فرق في ذلك بين التوراة التي أمر موسى ويحيى وأتباعهما من بني إسرائيل بأن يأخذوها بقوة، وبين القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فكلاهما منهج الله وشرعه ودينه وأمره.. فنحن المسلمين مأمورون أيضا بأن نأخذ القرآن بقوة يعني بجد وحزم وعزم، وأن نأخذ تكاليفه بصرامة وعدم تخاذل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة: 208)، ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (الأحزاب: 36).
إنما الجد العمل
إن أخذ الكتاب بقوة معناه الجد في التطبيق، والاستجابة للأمر والنهي بالطاعة فعلا وتركا.. ولا مجال هنا للوقوف عند تشقيق الكلام وكثرة القيل والقال، واستنزاف الأوقات، وإهدار الطاقات على حساب الفعل والتطبيق الحقيقي.
أخذ الكتاب بقوة معناه الانطلاق في العمل والتقليل من الكلام، فإن من الخذلان أن يفتح للإنسان باب القول ويسد عليه باب العمل، "دخَلَ الحسَنُ البَصريُّ رحمَه اللهُ المسجِدَ، فقعَدَ إلى جَنبِ حَلْقةٍ يَتكلَّمونَ، فأنصَتَ لحديثِهم، ثم قال: هؤلاء قومٌ ملُّوا العِبادةَ، ووجَدوا الكلامَ أهونَ عليهم، وقلَّ وَرَعُهم فتَكلَّموا». وقال الأوزاعيُّ رحمَه اللهُ: "إنَّ المؤمِنَ يقولُ قليلًا، ويَعمَلُ كثيرًا، وإنَّ المنافِقَ يقولُ كثيرًا، ويَعمَلُ قليلًا». قال معروفٌ: "إذا أرادَ اللهُ بعبدِه شرًّا أغلَقَ عنه بابَ العَملِ، وفتَحَ عليه بابَ الجدَلِ".
إن أخذ الكتاب بقوة هو إيمان بالله وبرسوله وبكتابه، ووتعلق بالدارِ الآخِرةِ يوجِبُ العَملَ والبِدارَ، والِجدَّ والاجتهادَ، كما في الحديثِ: «مَن خافَ أدْلَجَ، ومَن أدْلَجَ بلَغَ المنزِلَ، ألَا إنَّ سِلعةَ اللهِ غاليةٌ، ألَا إنَّ سِلعةَ اللهِ الجَنَّةُ».
إن أخذ الكتاب بقوة هو انقياد صادق، وإخلاص جازم، واعتقاد راسخ، وعلم يتبعه عمل متوازن، وفق ما شاء الله وأراد وشرع، وكل ذلك في رحاب استسلام عام ورضا تام لحكم الله وحكم رسوله: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [النساء: 65].
إن القوة كل القوة في أخذ الكتاب إنما تكون في تحقيق الإيمان في نفوسنا ثم نشره في واقعنا، ثم الانطلاق بعد ذلك في عمارة الأرض مستعينين بالله ومعتمدين عليه: (ولا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : 139]