وفاة أديب العربية الأكبر مصطفى صادق الرافعي 28 صفر 1356هـ (1937م):
الرافعي أديب العربية الأكبر، و حامل لواء الأصالة وأديب الفكرة الإسلامية، وجندي اللغة العربية، قد بلغ ببيان قلمه سماء ما طاولتها سماء في زمانه، ولا بلغها الأدباء ولا الشعراء في أوانه
كان رحمه الله خزانة الأدب و لسان العرب في الدفاع عن القرآن واللغة العربية، وكانت أبرز القضايا الإسلامية عنده هي قضية إعجاز القرآن الكريم، وقضية البلاغة النبوية.
جعل الرافعي الإسلام غايته وخدمة لغة القرآن بغيته في كافة مؤلفاته ودراساته وشعره ونثره.
وقد وقف أمام مؤامرات الإنجليز ضد الإسلام ومؤامرات الصهيونية في فلسطين ومؤامرات الذين أرادوا إحياء العامية والقضاء على اللغة العربية ودعاة التبرج و السفور.
قال عنه الزيات : الرافعي أمة وحده، وأكثر الذين كرهوه هم الذين جهلوه، إنما يحب الرافعي ويبكيه من عرف وحي الله في قرآنه، وفهم إعجاز القرآن في بيانه، وأدرك سر العقيدة في إيمانه.
ودعا له الشيخ محمد عبده قائلاً: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل".
مولده و نشأته :
اسمه : هو مصطفى صادق بن عبد الرّزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي.
ولد الرافعي في قرية ( بَهْتيم ) من محافظة القليوبيّة في مصر، في يناير 1880م .
والده الشيخ عبد الرازق الرافعي ، كان رئيسا للمحاكم الشرعية في كثير من محافظات مصر وآخرها طنطا ، ويمتدّ نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأمّه أسماء ابنة الشيخ أحمد الطوخي الحلبي الذي كان يدير تجارته بين مصر والشام .
نشأ في بيت دين وعلم، وكان بيتهم مقصد العلماء، وندوة المناظرات الدينية والأدبية، ينهل منها الرافعي علماً وأدباً، وقد ظهرت بوادر نبوغه منذ طفولته فكان موضع اهتمام كبير من والديه.
بدأت دراسته بالكُتّاب وحفظ القرآن الكريم وهو ابن عشر سنين.
دخل المدرسة الابتدائية في دمنهـور وهو في الثانية عشرة من عمره، ثم انتقل مع والده إلى المنصورة حيث نال الشهادة الابتدائية من مدرستها، وظلّت هي الشهادة الرسمية الوحيدة في عمره كله بسبب ظروفه الصحّية التي أورثته الصمم فيما بعد، وبقي يُعامَل من حيث الوظائف وميدان العمل على أساسها.
وكان لا يترك شيئاً مما يُطبَع أو يُنْشَر وتمتدُّ إليه يده إلا درسهُ وقرأه، وكان يعينه بعض الشيوخ والمؤلفين وأصدقاء والده.
وكان لا يتكلم إلا اللغة العربيّة الفصيحة مما أثار دهشة زملائه.
وقد التحق "الرافعي" بوظيفة كاتب بمحكمة طلخا الشرعية سنة (1317هـ = 1899م)، ثم نُقل منها إلى محكمة إيتاي البارود، ثم إلى محكمة طنطا الشرعية، ومنها إلى محكمة طنطا الأهلية، وظل بها حتى وفاته.
تزوج من السيدة نفيسة البرقوقي أخت صديقه الأثير الشيخ محمد عبد الرحمن البرقوقي، فكانت نعم الزوجة تعينه وتشدّ من أزره.
في عالم الشعر والأناشيد:
بدأ "الرافعي" حياته الأدبية شاعرًا، مُتَطلعًا إلى أن تكون له مكانة مرموقة بين الشعراء العظام وكان ينشر شعره في المجلات الذائعة الصيت في ذلك الوقت؛ كـ(الضياء)، و(البيان)، و(المقتطف)، و(الهلال).
وأصْدر وهو في الثالثة والعشرين من عمره ديوانه الأول، وقد لقي استحسانًا وتقديرًا، ونشرت جريدة (المؤيد) في صفحتها الأولى مقدمة الديوان، وبلغ من جودتها أن الشيخ "إبراهيم اليازجي" شكَّ في أن يكون كاتبها واحدًا من عصره وأن يكون في هذا العمر اليافع، فلما تيقن أنها من إنشاء "الرافعي" كتب مشيدًا بها في صحيفة (الضياء).
وتدفقت شاعريته، فملأت جزأين آخرين من ديوانه، ثم انصرف "الرافعي" إلى النثر وميدانه الرحيب الذي لا يعرف قيود القوافي والأوزان، لكنه كان من وقت لآخر يعود إلى الشعر.
وقد برز "الرافعي" أيضا في ميدان الأناشيد الوطنية، وذاع نشيده الأول الذي نظمه سنة (1349هـ = 1930م )، وتردد على ألسنة الطلبة في ذلك الوقت، ومطلعه:
بلادي هواها في لساني وفي دمي يمجدها قلبي ويدعو لها فمي
واشتهر نشيده "اسلمي يا مصر"، وكان النشيد الذي رددته أجيال من الطلبة والشباب، حتى أصبح نشيد مصر الوطني منذ عام (1242هـ = 1923م) إلى عام ( 1355 هـ = 1936م).
من جميل كلامه
- وأَشقى الناس من يتوقع الشقاء وهو لا يعلم من حاضره ما الله صانع به، ولا من مستقبله ما الله قاض فيه.
- أشـَدّ سُجونِ الحَياةِ قسوَةً... فِكرَة بائِسَة يسْجـِن المَرْء مِنـَّا نـَفسُه بداخِلِها.
- ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ.
- إذا لـم تـزد عـلـى الـحـيـاة شـيـئـا، فـأنـت زائـدٌ عـلـيـهـا.
- إذا كان الجسد العاري دليل الحضارة فهنيئاً للحيوانات فلهم كل الحضارات.
- إن الشعب الذي لا يجد أعمالاً كبيرة يتمجد بها، هو الذي تُخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهّى بها.
- أضيع الامم أمة يختلف ابناؤها، فكيف بمن يختلفون فيما هم مختلفون!
- إذا أسندت الأمة مناصبها الكبيرة إلى صغار النفوس، كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم.
- الرذيلة الصريحة رذيلة واحدة، ولكن الفضيلة الكاذبة رذيلتان.
- ربما كان الهم مقدمة لفرج قريب أو لتعويض؛ فإن لكل شيء ثمنه والهموم مقدمات في أحيان كثيرة لنعم مخبوءة.
- لا تتم فائدةُ الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفسُ من شعور إلى شعور؛ فإذا سافر معك الهم فأنت مقيم لم تبرح.
- الفقير الذي يطمح إلى الغنى، كالغني الذي يطمح إلى ما هو أغنى كلاهما فقير.
- أمقتُ الحرب لأنها تلوّث الحياة بدماء الرجال، ثم لا تغسلها إلا بدموع النساء والأطفال.
مؤلفاته:
استطاع الرافعي خلال فترة حياته الأدبية التي تربو على خمسٍ وثلاثين سنة إنتاج مجموعة كبيرة ومهمة من الدواوين والكتب أصبحت علامات مميزة في تاريخ الأدب العربي الحديث.
(1) دواوينه الشعرية:
كان الرافعي شاعراً مطبوعاً بدأ قرض الشعر وهو في العشرين، وطبع الجزء الأول من ديوانه في عام 1903 وهو بعد لم يتجاوز الثالثة والعشرين، وقد قدّم له بمقدمة بارعة فصّل فيها معنى الشعر وفنونه ومذاهبه وأوليته.
وتألق نجم الرافعي الشاعر بعد الجزء الأول واستطاع بغير عناء أن يلفت نظر أدباء عصره، واستمر على دأبه فأصدر الجزأين الثاني والثالث من ديوانه. وبعد فترة أصدر ديوان النظرات، ولقي حفاوة بالغة من علماء العربية وأدبائها قلّ نظيرها.
(2) كتبه النثرية:
كتب الرافعي مجموعة من الكتب عُدت من عيون الأدب المعاصر
وأهمها:
1- تحت راية القرآن: المعركة بين القديم والجديد: وهو كتاب وقفه – كما يقول - على تبيان غلطات المجددين الذي يريدون بأغراضهم وأهوائهم أن يبتلوا الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، وهو في الأصل مجموعة مقالات كان ينشرها في الصحف في أعقاب خلافه مع طه حسين الذي احتل رده على كتاب " في الشعر الجاهلي" معظم صفحات الكتاب.
2-وحي القلم : وهو مجموعة من مقالاته النقدية والإنشائية المستوحاة من الحياة الاجتماعية المعاصرة والقصص والتاريخ الإسلامي المتناثرة في العديد من المجلات المصرية المشهورة في مطلع القرن الماضي مثل: الرسالة، والمؤيد والبلاغ والمقتطف والسياسة وغيرها.
3- تاريخ الأدب العربي: وهو كتاب في ثلاثة أجزاء، الأول: في أبواب الأدب والرواية والرواة والشواهد الشعرية، والثاني: في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وأما الثالث: فقد انتقل الرافعي إلى رحمة ربه قبل أن يرى النور؛ فتولى تلميذه محمد سعيد العريان إخراجه.
4- حديث القمر: أنشأه بعد عودته من رحلة إلى لبنان عام 1912.
5- كتاب المساكين: وهو كتاب قدّم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني، وهو فصول شتى ليس له وحدة تربطها سوى أنها صور من الآلام الإنسانية الكثيرة الألوان المتعددة الظلال. وقد أسند الكلام فيه إلى الشيخ علي الذي يصفه الرافعي بأنه: " الجبل الباذخ الأشم في هذه الإنسانية التي يتخبطها الفقر بأذاه "، وقد لقي هذا الكتاب احتفالاً كبيراً من أهل الأدب حتى قال عنه أحمد زكي باشاً: " لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير وهيجو كما للفرنسيين هيجو وجوته كما للألمان جوته ".
6- رسائل الأحزان : من روائع الرافعي التي هي نفحات الحب التي تملكت قلبه وإشراقات روحه، وقد كانت لوعة القطيعة ومرارتها أوحت إليه برسائل الأحزان التي يقول فيها "هي رسائل الأحزان لا لأنها من الحزن جاءت؛ ولكن لأنها إلى الأحزان انتهت؛ ثم لأنها من لسان كان سلماً يترجم عن قلب كان حرباً؛ ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة وكان كالحياة ماضياً إلى قبر".
7- السحاب الأحمر: وقد جاء بعد رسائل الأحزان، وهو يتمحور حول فلسفة البغض، وطيش القلب، ولؤم المرأة.
8- أوراق الورد رسائله ورسائلها: وهو طائفة من خواطر النفس المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه الرافعي ليصف حالةً من حالاته ويثبت تاريخاً من تاريخه، كانت رسائل يناجي بها محبوبته في خلوته، ويتحدث بها إلى نفسه أو يبعث بها إلى خيالها.
9- على السَّفُّود: وهو كتاب لم يكتب عليه اسم الرافعي وإنما رمز إليه بعبارة إمام من أئمة الأدب العربي؛ وهو عبارة عن مجموعة مقالات في نقد بعض نتاج العقاد الأدبي.
وفاته:
ظل "الرافعي" حتى آخر حياته متيقظ العقل، متوهج الفكر، لا يشكوا من علة مقعدة أو مرض يلزمه الفراش، حتى استيقظ في فجر يوم الاثنين 28 صفر 1356هـ ، الموافق 10 مايو 1937م، فتوضأ وصلى، وجلس يقرأ القرآن الكريم، وشعر باضطراب في معدته، فأعطاه ابنه الدكتور "محمد" دواء، وطلب منه أن يخلد للراحة والنوم، وبعد ساعتين استيقظ "الرافعي"، وبينما هو في طريقه إلى الحمام سقط مسلمًا الروح، بعد حياة لم تتجاوز ستين سنة، تاركًا تراثًا خالدًا، وذكرى عطرة، رحمه الله و أحسن إليه.