وفاة العلامة صديق حسن خان القنوجي 29 جمادى الآخرة سنة 1307هـ (1890م):
الشيخ صديق حسن خان عالم جليل من علماء الهند، كان أمير "بهوبال"، وهو ينتسب إلى الأسرة الحسينية، فهو كما يقول عن نفسه "فبيني وبين رسول الله 33 جيلاً".
اسمه :
محمد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله بن عزيز الله.
ولد في 19 جمادى الأولى 1248 هـ الموافق 14 أكتوبر 1832، وقد توفي والده وهو صغير حيث توفي والده عام 1352 هـ، وبقي الطفل يتيما في كنف أمه فاعتنت أمه بتربيته ومما قاله عن ذلك : كنت في السابعة، وكانت أمي توقظني وتوضئني وتبعثني للمسجد، ولا تتركني أصلي في البيت، وإن لم أقم ترش الماء على وجهي!
عاش بداية حياته في مدينة قنوج التي ينسب إليها، وانتقل في أواخر سنة 1269هـ إلى دهلي، وهناك طلب العلم على علماء الهند، وأثنوا على فهمه وحفظه وذكائه، وفرغ من دراسة العلوم المتداولة وهو في العشرين من عمره، ثم رجع إلى موطنه قنوج، لكن واجه ظروفًا معيشية صعبة اضطرته إلى حمل عصا الترحال إلى بهوبال، وكان صيتها في رعاية العلم والعلماء قد ذاع وانتشر، فعمل هناك بأجر شهري قدره 100 روبية، وبسبب إبداعه في عمله رقى إلى وظيفة أرقى، ولكنه عزل بعد خلاف بينه وبين أحد العلماء في مسألة ( تدخين النارجيلة )، فقد كان الشيخ يرى حرمتها والآخر لا يرى ذلك، وتسبب هذا الخلاف في عزله من وظيفته بعد سنة تقريبًا.
ثم ترك الشيخ بهوبال، ورجع إلى قنوج وتقلبت به الأمور إلى أن طلب منه الذهاب إلى بهوبال مرة أخرى، فذهب وتقرر له راتب شهري قدره 75 روبية، وأوكل إليه كتابة تاريخ إمارة بهوبال، وأكرمه الله هذه المرة في بهوبال، وفتح له الأبواب فتزوج من ابنة مدير الترتيبات، وبدأ يرقى يومًا بعد يوم في الوظائف حتى تولى نظارة المعارف، وولي النظارة بديوان الإنشاء، واستدعى والدته وأخواته من قنوج، وقرر الاستقرار في بهوبال.
وبعد أن توفيت رئيسية بهوبال (نواب سكندر جهان بيغم)، وتقلدت أمر الرئاسة من بعدها ابنتها (نواب شاهجان بيغم)، وكان زوجها قد مات فرأت في الشيخ صديق من الذكاء والأمانة والعفة ما جعلها تشركه معها في إدارة شؤون الإمارة، وكان الشيخ يتردد بحكم منصبه إليها ويمثل بين يديها، فألقى الله في قلبها محبته فقربته إلى نفسها، وكانت أيماً، مات زوجها النواب باقي محمد خان قبل سنوات وتزوجته، وكان هذا الزواج سببًا في قيامه بخدمة الدين.
أعماله وهو أمير بهوبال:
راح الشيخ يجمع من المصادر العلمية الكثير، و بأي ثمن من مصر وبيروت والهند وجزيرة العرب، ثم جعل يطبعها في مصر وبيروت والهند عن طريق وكلاء له في تلك البلاد، وينفق ملايين الروبيات عليها، ثم راح يوزع هذه الكتب مجانًا على العلماء في العالم الإسلامي بعد طباعتها على نفقته، ومن هذه الكتب : "فتح الباري شرح صحيح البخاري" و "تفسير ابن كثير" و "نيل الأوطار للشوكاني" و "فتح البيان في مقاصد القرآن" وهو تفسير للقرآن من تأليفه.
كان "رحمه الله" يُشجع العلماء وطلاب العلم على حفظ السنة المحمدية والتبصر فيها، و العناية بالشعائر الدينية، وقمع الباطل والبدع والخرافات، و يمنح المتفوقين منهم مكافآت مادية ومعنوية.
فقد جعل لمن يحفظ ( بلوغ المرام ) لابن حجر مكافأة شهرية مقدارها عشرون روبية، وبعد الحفظ بتمامه جائزة قدرها مائة "100" روبية، وجعل لمن يحفظ ( مشكاة المصابيح ) للخطيب التبريزي مكافأة " 30 " روبية في كل شهر، و " 500 " بعد حفظه كله، و كذلك لمن يحفظ (الجامع الصحيح) للإمام البخاري خمسين " 50 " روبية شهرياً، وألف " 1000 " روبية بعد الحفظ بتمامه.
كما أسس "رحمه الله" مجلساً علمياً مشتملاً على كبار العلماء والفحول من الهند وخارجها من البلاد العربية الذين وفدوا إلى بلدة بهوبال المحروسة، ثم عين بعضهم على الشؤون الدينية كالقضاء و الفتيا، و بعضهم على شؤون التأليف و التحقيق، و منهم من كانوا يقومون بالإشراف و التفتيش على المدارس و المعاهد.
و من أبرزهم : الشيخ محمد بشير السهسواني صاحب رسالة " صيانة الإنسان في الرد على الشيخ دحلان "، والشيخ بشير الدين القنوجي أحد فحول علماء الهند في عصره، و الشيخ سلامة الله الجيراجفوري، أحد تلاميذ المحدث نذير حسين الدهلوي " رحمه الله ".
والقاضي حسين بن محسن اليماني، تلقى العلم عن كبار علماء اليمن الميمون، و درس وأفاد مدة هناك، ثم جاء إلى بهوبال وتوطن بها، وكان مدرساً في مدرسة الرياسة، وطار صيته في أرجاء الهند، فأقبل إليه طلاب العلم من كل جانب، فتتلمذوا عليه واستفادوا منه؛ كالقنوجي، ومحمد بشير السهسواني ، والمحدث شمس الحق "صاحب عون المعبود"، وغيرهم
وقبل موته بحوالي خمس سنوات وجهت إليه تهمة الترغيب في الجهاد ضد الإنجليز، وتهمة معارضة الحكومة، وتهمة نشر العقيدة السلفية ( الوهابية كما يسمونها) حتى تم الاستيلاء على جميع ممتلكاته مع فرض الإقامة الجبرية عليه وتجريده من جميع ألقابه، وذلك في 17 ذو القعدة سنة 1302هـ بعد أن تولى الإمارة مدة 14 سنة لكنهم بعد وفاته أعادوا له جميع ألقابه.
من كلامه :
- أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وانصرامها، وعظم الآخرة ودوامها وصفاءها.
- لا يستوحش من ظفر بالحق بكثرة المخالفين وليوطن نفسه على الصبر واليقين.
- إذا وطنت نفسك على الإنصاف، وعدم التعصب لمذهب، ولا لعالم من العلماء، فقد فزت بأعظم فوائد العلم.
- فإن الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريمًا، لا ينال مع الإضراب عن طلبه، وعدم التشوق والإشراف إلى سببه.
- فيا واقفون والأيام والليالي بكم سائرة إن فيما تشاهدون من العبر لموعظة زاجرة.
- من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادة النفس والهوى.
- الإفادة أفضل من العبادة.
- طالب السلامة من أبناء الدهر؛ كمسترجع الشباب بعد مشيب العمر.
مؤلفاته :
كان الشيخ موسوعيًا في تأليفه، فقد كتب ما يقرب من 223 كتابًا بالعربية والفارسية والأردية، منها 56 كتابا بالعربية ، كتب في التفسير والحديث والعقيدة والفقه والتاريخ والسيرة واللغة والأدب، وغير ذلك.
و من أشهر كتبه :
1- " فتح البيان في مقاصد القرآن " تفسير في 10 مجلدات.
2- " عون الباري لحل أدلة البخاري ".
3- " السراج الوهاج في شرح مختصر صحيح مسلم ابن الحجاج ".
4- " الدين الخالص " في 4 مجلدات.
5- " قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر ".
6- " حصول المأمول في علم الأصول " أصول فقه.
7- " الروضة الندية شرح الدرر البهية" فقه.
8- " أبجد العلوم " وهو دائرة معارف إسلامية.
9- " فتح العلام بشرح بلوغ المرام".
10- " حسن الأسوة مما ثبت عن الله ورسوله في النسوة ".
وغير ذلك الكثير.
وفاته :
توفي الشيخ صديق حسن خان ـ بعد معاناة مع المرض ـ في يوم 29 جمادى الآخرة سنة 1307هـ ، رحمه الله مع الأبرار.