خَلَقَ اللهُ عزَّ وجَّل الخَلْقَ لعبادته وتوحيده، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56). قال القرطبي: "والمعنى: وما خلقتُ أهل السعادة مِن الجن والإنس إلا ليوحدون". وقد جاء الإسلام بأعظم معروف وهو توحيد الله عز وجل وعبادته، ونهى عن أعظم منكر وهو الشرك بالله، قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}(النساء:36). قال السعدي: "يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول تحت رِقِّ عبوديته، والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلا وإخلاصا له، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة. وينهى عن الشرك به شيئا، لا شركا أصغر ولا أكبر". ويكفى الشرك بالله إثما وشرا أنَّ الله عز وجل لا يغفره، وأن عاقبته الحرمان من الجنة والخلود في النار، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}(النساء:48). وقال عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}(المائدة:72).
والنبي صلى الله عليه وسلم حِمايةً للتوحيد حذر أصحابه وأمته مِنْ بعدهم من الشرك تحذيرا شديدا، ونهاهم عن كل ما يوصل إليه، ويؤدي للوقوع فيه، من وسائل وأسباب قولية أو فعلية، ولم يترك بابًا من الأبواب التي تُوصِّل إليه إلا أغلقه.. والمواقف والأحاديث النبوية الدالة على حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد كثيرة، ومن ذلك:
1 ـ مِنْ حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد وسدِّه لذرائع الشرك أنه إذا سمع ألفاظًا تتعارض مع التوحيد، وتوقع قائلها في الشرك، وإن لم يعتقد قائلها ذلك بقلبه، غضب وحذَّر من ذلك أشد التحذير، وذلك لأنَّ جعْل المخلوق مساوياً للخالق ولو باللفظ في المشيئة أو التعظيم فيه إساءة ظن وأدب برب العالمين، إذ هو سبحانه المتعالي العظيم الذي له الخلق والأمر سبحانه. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراجعه في بعضِ الكلام، فقال: ما شاء اللهُ وشئتَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً (شبيها ومثيلا)؟ ما شاء الله وحده) رواه أحمد وصححه الألباني. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال الهروي: "لِمَا فيه من التسوية بين الله وبين عباده، لأن الواو للجمع والاشتراك (ولكن قولوا: ما شاء الله) أي: كان، (ثم شاء فلان) أي: ثم بعد مشيئة الله شاء فلان، لأن ثم للتراخي".
2 ـ ومِنْ صور حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد أنه كان ينهى عن الحلف بغير الله، لأن الحلف بغير الله يُفْضي إلى تعظيم المخلوق، ورفعه إلى منزلة لا تجوز إلا لله عز وجل، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلفَ بغيرِ اللَّه فقد أشرَك) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال المناوي: "أَي فَعَل فِعْل أهل الشّرك أَو تشبه بهم، إذْ كَانَت أيْمانهم بآبائهم وما يعبدونه من دون الله، أوْ فقد أشرك غير الله فِي تَعْظِيمه". وقال السيوطي: "قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده".
3 ـ ومن حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد أنه كان ينهى عن إطرائه والمبالغة في مدحه، لأن المبالغة في مدحه قد توصل الذي يمدح إلى أن يصف النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مِن خصائص الله تعالى كما حصل مع للنصارى، فإنهم غلوا في مدح عيسى عليه السلام حتى جعلوه إلـهاً مع الله. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تُطْروني (لا تتجاوزوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عَبْد، فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري. وعن الرُبَيِّع بِنْتَ مُعَوَّذ رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم غداة بني علي فجلس على فراشي وجُوَيْرِيات (بنات للأنصار صغيرات) يَضْرِبْنَ بالدُّفِّ.. إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين (من الشِعر الذي لا مغالاة فيه)) رواه البخاري. قال ابن حجر": وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حين أطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى". وإذا كان هذا في حقه صلى الله عليه وسلم ـ وهو أفضل خَلْقِ ورُسُل الله ـ فغيره من الأولياء والصالحين أوْلى ألا يُغَالَى في مدحهم، لان الغلو والتجاوز في المدح يؤدي إلى الشرك بالله عز وجل. قال ابن القيم: "ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعلوا فيه حظًّا من الإلهية، وشبهوه بالله تعالى".
4 ـ ومن مواقف حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد منعه من التبرك بالأشجار أو غيرها، ففي غزوة حنين خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض حديثي العهد بالإسلام، وكانت لبعض القبائل ـ قبل الإسلام ـ شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها. يقول أبو واقد الليثي رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط (اسم الشَّجرة)، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}(الأعراف:138)، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم (تَفعَلون مِثلَما فعَل مَن كان قَبلَكم مِن المشرِكين واليهودِ والنَّصارى)) رواه الترمذي وصححه الألباني. فأغلق النبيُ صلى الله عليه وسلم أبوابَ التبركِ بالأشجار ومثل ذلك التبرك بالأحجار والأشخاص وغير ذلك.
5 ـ ومن صور حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد وسده لأبواب الشرك: النهي عن إتيان الكُهَّان والعرّافين ومدّعي علم الغيب. روى مسلم في صحيحه عن بعض أمهات المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أَتَى عَرَّافًا أو كاهنًا فصَدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال ابن حجر: "والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة، وتارة بالتكفير، فيُحْمَل على حالين من الآتي، أشار إلى ذلك القرطبي". وقال ابن تيمية: "والمراد بالكفر هنا هو التشبه بالكافرين في الجاهلية، لا أنه كافر حقيقة".
6 ـ ومن حماية من النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد أنه كان ينهى عن الذبح لله تعالى في مكانِ كان فيه عيدٌ للمشركين أو كان فيه وثنٌ من أوثانهم. عن مَيْمُونَةَ بِنْتِ كَرْدَم رضي الله عنها قالت: (خرجتُ معَ أبي في حجَّة رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلم.. فدنا إليْه أبي فقال يا رسول اللَّه: إنِّي نذرتُ إن ولدَ لي ولدٌ ذَكرٌ أن أنحرَ (أذبح لله) على رأسِ بُوانةَ (مكان أراد الناذر أن يذبح عنده) في عقبةٍ منَ الثَّنايا عدَّةً منَ الغنم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل بِها منَ الأوثانِ شيء؟ قال: لا قال: فأوفِ بما نذرتَ بِه للَّه) رواه أبو داود وصححه الألباني. وفي رواية: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم). قال في "فتح المجيد": "وفيه سد الذريعة، وترك مشابهة المشركين، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَوْفِ بنذرك) بعد أن استفصل عن عدم وجود وثن في الماضي، أو عيد من أعياد الجاهلية: يدلُّ على أن نذر الذبح في مكان يذبح فيه لغير الله، أو كان فيه اجتماع من اجتماعات الجاهلية، نذرُ معصية لا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء".
7 ـ ومن صور إغلاقه صلى الله عليه وسلم لأبواب الشرك وحمايته للتوحيد، نهيه عن سؤال ودعاء غير الله عز وجل، فمِن الشرك بالله عز وجل طلب المدد والعون والغوث من غير الله ـ ولو كان نبيا أو وليا ـ فيما لا يقدر عليه إلا الله. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّه) رواه الترمذي وصححه الألباني. قال الشيخ ابن عثيمين: "(إذا سألت فاسأل الله) إذا سالت حاجة فلا تسأل إلا الله عز وجل ولا تسأل المخلوق شيئا، وإذا قُدِّرَ أنك سألتَ المخلوق ما يقدر عليه، فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن المسبب هو الله عز وجل، لو شاء لمنعه من إعطائك سؤالك فاعتمد على الله تعالى.. وإذا استعنت بمخلوق فيما يقدر عليه فاعْتَقِد أنه سبب، وأن الله هو الذي سخره لك. وفي هاتين الجملتين دليل على أنه مِنْ نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله".
التَّوحيدِ "لا إله إلا الله" إقرارٌ للهِ سُبحانَه باستِحقاق العبادة وحْدَه لا شَريك له، ونَفْيِ الشُّركاء معه، وهذه الشَّهادة هي التي تُنجِّي قائِلَها بصِدقٍ مِن النَّارِ ومِن عَذابِ يوم القِيامة، ومَنْ عمل بما دلت عليه كانت له السعادة في الدنيا والآخرة، والأحاديث النبوية في فضائل التوحيد كثيرة يصعب حصرها، وهي تدل على أن من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة، ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عتبان بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).. والشّرك بالله أخطرَ الأمور، وهو الذنب الأكبر الذي لا يُغْفَر، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(النساء:48)، قال ابن كثير: "{لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} أي: من الذنوب {لِمَنْ يَشَاءُ} أي: من عباده".
ولما كان الشرك بالله بهذه الخطورة حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه، وسدَّ ذرائعه، وأغلق أبوابه، ونهى عن كل ما يؤدي إليه من قول أو فعل، حماية منه لمقام وجناب التوحيد، ونصحًا للأُمَّة، وشفقة عليها.