الإسلام بأحكامه وتشريعاته منهج متكامل، جاء ليقيم الحياة على أساس سليم قويم، لا ظلم فيه ولا اعوجاج، ولـما كان القوم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتعدوا عن جادة دين إبراهيم الذي كانوا يزعمون أنهم عليه، ومن ذلك ما يتعلق باليتامى؛ جاء الإسلام ليردهم إلى الجادة في ذلك، فيرفع الظلم عن اليتامى، ويقيم اعوجاج الجاهلية فيه؛ فأنزل تعالى جملة من الأحكام المتعلقة باليتامى.
قال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)} إلى قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6].
وقد كان من ظلم أهل الجاهلية لليتامى أنهم كانوا لا يُورثونهم شيئًا مما ترك آباؤهم. روى السيوطي عن ابن عباس في أسباب نزول قوله تعالى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7]: أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له: أوس بن ثابت، وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه فأخذا ميراثه كله، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أدري ما أقول» فنزلت {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون}، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا تحركا من الميراث شيئًا فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبًا».
اشتملت آيات: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} على جملة من الأحكام المتعلقة باليتيم ووليه، وبيان ذلك فيما يأتي:
أولًا: أمر الله تعالى الأولياء أن يدفعوا لليتامى أموالهم إذا ما بلغوا الحلم، ونهاهم أن يأكلوا منها شيئًا، واليتامى هم الذين مات آباؤهم صغارًا، ومع ذلك نجد أن الله تعالى قد سماهم عند بلوغهم يتامى أيضًا، وفي ذلك يقول الرازي: "سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليُتم، وإن كان قد زال في هذا الوقت".
ثانيًا: أن الله تعالى نهى أولئك الأولياء عن أمرين اثنين، أولهما قوله تعالى: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أي: لا تبدلوا أموالهم الصحيحة بأموالكم الغثة، وقد قال السدي في ذلك: "كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد، ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم"، وثانيهما: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي: لا تخلطوا أموال اليتامى بأموالكم لتأكلوها جميعًا، فذلك إثم كبير عظيم، بل عليهم وضع مال اليتيم في كل ما فيه مصلحته من تجارة ونحوها، وهو الذي أمر به تعالى في موضع آخر فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].
ثالثًا: بعد أن أمر الله تعالى الأولياء أن يدفعوا إلى اليتامى أموالهم؛ بيَّن الوقت الذي تدفع إليهم فيه أموالهم فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، فذكرت الآية أن المال لا يدفع لليتيم إلا بشرطين اثنين أولهما: بلوغ الحلم، وهو الذي جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] وثانيهما: أن يؤنس منه الرشد، قال سعيد بن جبير أي: "صلاحًا في دينهم، وحفظًا لأموالهم"، فإذا ما بلغ اليتامى وصاروا يحسنون التصرف في أموالهم يجب على الولي دفعه إليهم.
الرابع: أن الله تعالى أمر الأولياء أن يكفوا عن أموال اليتامى، ولا يأكلوا منها شيئًا؛ إلا حال كونهم فقراء، وإذا ما أكلوا منها أن يأكلوا بالمعروف فقال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} والمعروف هو: أن يأكل بقدر حاجته وقيامه على اليتيم، أو كما قال عطاء وعكرمة: ما يسد الجوعة، ويواري العورة، وعلى الولي أن يعيد لليتيم ذلك المال حال يُسره خروجًا من الخلاف في هذا الأمر، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت".
الخامس: أنه يجب على ولي اليتيم إذا ما دفع إليه ماله أن يشهد على ذلك، امتثالًا لأمر الله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}، وبراءة لذمته ظاهرًا، ولئلا يجحد اليتيم تسليمها بعد ذلك أيضًا، لا سيما وأن الإمامين مالكاً والشافعي قد ذهبا إلى تصديق اليتيم إذا ما ادعى بعد بلوغه أن الولي لم يدفع إليه ماله، وإذا ما أشهد الولي على دفع المال لليتيم خرج من ذلك كله.
بمثل هذه الأحكام وغيرها انتصر الإسلام لليتامى، فرفع عنهم الظلم، وأعطاهم حقوقهم، وقوَّم اعوجاج الجاهلية فيه، فكان منهج حياة بحق، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.