الله تعالى يخلق ما يشاء ويختار، وقد اختار سبحانه مما خلق من الأرض مكة، فجعل بيته الحرام فيها، واختار أطهر الأيدي لتعمره، فأمر إبراهيم عليه السلام ببنائه وتطهيره، ثم أعطى هذا البيت من الأحكام والمزايا ما أضفى عليه القداسة، وميزه عن غيره بجعله حرمًا، ثم خصه بأن بعث فيه خيرة أنبيائه ورسله: محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم جعل وراثته لأمته صلى الله عليه وسلم خيرِ أمة أخرجت في الأرض.
وكان من الأحكام التي خص الله بها المسجد الحرام ما أمر الله به المؤمنين بقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]، وقد نزلت هذه الآية حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا رضي الله عنه في العام التاسع من الهجرة يؤذن في الناس ألا يحج بعد العام مشرك، وما جاء أوائل سورة براءة، ولـمَّا أعلم الله عبادَه المؤمنين أنه لا يصحَّ للمشركين أن يعمروا مساجد الله وعنى بها المسجد الحرام؛ أمرهم بعد ذلك بهذه الآية أن يمنعوهم من دخول المسجد الحرام.
وقد تضمنت هذه الآية جملة من الأحكام والتوجيهات بيانها فيما يأتي:
أولًا: أمر الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا المشركين من دخول المسجد الحرام، والقيام بمصالحه ونحو ذلك مما كان عليه أمر الجاهلية، بل يعزلوا عن ذلك كله؛ لأنهم ليسوا أهلا له كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17].
ثانيًا: ذهب جمهور العلماء إلى أن المقصود بالمشركين في الآية إنما هم عبدة الأوثان والأصنام، الذين اتخذوا مع الله إلها آخر، ولا يدخل في ذلك أهل الكتاب اليهود والنصارى وإن كانوا كفارًا، قال أبو حيان الأندلسي: "والجمهور على أن المشرك من اتخذ مع الله إلها آخر، وعلى أن أهل الكتاب ليسوا بمشركين"، فذهب أبو حنيفة إلى جواز دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره من المساجد.
ثالثًا: فسَّر الجمهور نجاسة المشركين المذكورة في الآية بالنجاسة المعنوية؛ لأن المشركين لا يغتسلون من الجنابة، ولا يتطهرون، أما أعيانهم وذواتهم فليست نجسة كما قال ذلك البعض، قال ابن كثير: "فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب".
رابعًا: اختلف الفقهاء في المراد بالمسجد الحرام في الآية، فذهب الحنابلة إلى أن المقصود به حرم مكة كله، فمنعوا دخول غير المسلمين مكة وحرمها. وفسره الشافعية بأنه المسجد الحرام خاصة، وأجازوا دخول غير المسلمين غيره من المساجد. وأما المالكية ففسروه بأنه المسجد الحرام، ثم قاسوا عليه كل المساجد، وقاسوا على المشركين كل الكفار، فمنعوا دخول غير المسلمين إلى المساجد كلها، وقالوا الحرمة موجودة لكل المساجد، والنجاسة موجودة في كل كافر. أما أبو حنيفة فإنه قد فسره بالمسجد الحرام خاصة، ولكنه قصر المنع من دخول المسجد الحرام لأجل أداء العمرة والحج فقط، وأباح دخول المشركين المسجد الحرام لغير الحج والعمرة، ومن باب أولى إباحة دخولهم لغيرها من المساجد.
خامسًا: عدم قدح النظر في الأسباب في صحة التوكل على الله في يتعلق بالأرزاق ، وذلك أنه لـمَّا قرأ عليٌّ رضي الله عنه في الحج أوائل سورة براءة، ومنه ألا يحج بعد العام مشرك؛ ظنَّ بعض المسلمين أن أرزاقهم ستنقطع، وأنهم سيقعون في الشدة والحاجة؛ لأن المشركين كانوا يأتون بتجارتهم وحمولاتهم إلى مكة وكان ذلك من أسباب رزقهم؛ فقال الله لهم: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]، قال ابن العربي: "وليس ينافي النظر إلى السبب التوكل من حيث إنه مسخر مقدور؛ وإنما يضاد التوكل النظر إليه بذاته، والغفلة عن الذي سخره في أرضه وسماواته"، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» رواه الترمذي، فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الغدو والرواح في طلب الرزق لا ينافي حقيقة التوكل.
وقد أغنى الله المسلمين بعد ذلك بأموال الجزية، وبإسلام العرب؛ فعادت التجارة للحرم وقت الموسم، وكثرت الأرزاق.