مسلك بيان الأحكام الفقهية: الشربيني إمام من أئمة الفقه في مذهب الشافعي، ومصنفاته في الفقه (المغني، والإقناع) أضحت كتبًا معتمدةً عند متأخري الشافعية، وقد ظهر أثر رسوخه في الفقه في تفسيره للقرآن، فاهتمَّ ببيان الأحكام الفقهية المتعلقة بالآية التي يفسرها، وكان له في ذلك منهجه الخاص، فكان يذكر الأقوال في المسألة الفقهية، ومن قال بها وأدلتهم، ويبين الراجح ودليله، وكان في أغلب ترجيحاته يبرز مذهب الشافعي، وأحيانًا يعمد إلى ذكر الأقوال فقط دون تعقيب ولا ترجيح.

فمن ذلك: أنه عند تفسير قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] تكلم عن حد الزنا وشروطه، وردَّ قول أبي حنيفة من أن الإسلام شرط من شروط الإحصان، وأن الذمي لا يرجم؛ فقال: "وجملة حد الزنا أنّ الزاني إذا كان محصناً وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف: العقل والبلوغ، والحرّية والإصابة بالنكاح الصحيح، فحدّه الرجم مسلماً كان أو ذميّاً، وعند أبي حنيفة أنّ الإسلام من شرائط الإحصان فلا يرجم عنده الذميّ، ويردّه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا»"، فهنا نجد الشربيني يذكر الأقوال، ويرجح أن الذمي المحصن يرجم، ويستدلَّ له بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال في تفسير الضرب والقصر وما يتعلق بهما من أحكام في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]: قال ضربتم: "سافرتم سفراً طويلاً لغير معصية، والطويل عند الشافعيّ رحمه الله تعالى أربعة برد، وهي مرحلتان كما ثبت ذلك بالسنة، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثلاثة أيام ولياليهنّ بسير الإبل، ومشي الأقدام على القصد" وقال في القصر: "أي: من أربع إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء، يدل على جواز القصر دون وجوبه، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتم في السفر كما رواه الشافعيّ وغيره. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال: «أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ» رواه الدارقطني" ثم قال الشربيني: "وأوجب القصر أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم»، رواه النسائيّ وابن ماجة، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها: «أوّل ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر» رواه الشيخان"، فهنا ذكر الشربيني بعض الأقوال في بيان مسافة السفر، وفي القصر وما يتعلق به، وذكر أدلة كل قول دون أن يذكر ترجيحًا، وإن كان كلامه يشي بالانتصار لمذهبه الشافعي.

مسلك بيان المناسبة بين السور والآيات: الشربيني من المفسرين الذين اهتموا بإظهار المناسبات في تفسيره، تبدى ذلك في إظهاره مناسبة فواتح كثير من السورة لخواتيم السور التي قبلها، وكذا بيان مناسبة الآيات لما قبلها، ولعل من أسباب إكثار الشربيني من ذلك تأثره بتفسير البقاعي قبله الذي كتب تفسيره لإظهار الترابط بين سور القرآن وآياته، لاسيما وأنه قد أكثر من نقل أقوال البقاعي في تفسيره.

ومن السور التي بين الشربيني الترابط بين أوائلها وأواخر ما قبلها: سورتي الحج والأنبياء، حيث قال في مناسبة أوائل سورة الحج لأواخر سورة الأنبياء التي قبلها: "ولما ختمت السورة التي قبل هذه بالترهيب من الفزع الأكبر، وطي السماء، وإتيان ما يوعدون، وكان أعظم ذلك يوم الدين؛ افتتحت هذه السورة بالأمر بالتقوى المنجية من هول ذلك اليوم"، وقد قال تعالى أواخر سورة الأنبياء: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وقال تعالى أوائل سورة الحج: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1، 2].

ومن ذلك ذكر الشربيني المناسبة بين أواخر سورة القصص وأوائل سورة العنكبوت فقال: "ولما قال تعالى في آخر السورة المتقدّمة {وادع إلى ربك} وكان في الدعاء إليه الحراب والضراب والطعان؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد، فشق على البعض ذلك فقال تعالى: {أحسب الناس} أي: كافةً {أن يتركوا} أي: أظنوا أنهم يتركون بغير اختبار وابتلاء في وقت ما بوجه من الوجوه".

ولكن الشربيني الذي أكثر من ذكر المناسبات بين سور القرآن لم يسلم من ذكر مناسبات بعيدة انتُقد فيها من العلماء، ومن ذلك ذكره مناسبة أوائل سورة الروم لأواخر سورة العنكبوت حيث قال: "وقال البقاعي: لما ختم سبحانه وتعالى التي قبلها بأنه مع المحسنين قال: {ألم} مشيرًا بألف القيام والعلو، ولام الوصلة، وميم التمام إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام، الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم السلام إلى أشرف خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق، يوحي إليه وحيًا معلمًا بالشاهد والغائب، فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلًا على صحة رسالته، وكمال علم مرسله، وشمول قدرته، ووجوب وحدانيته"، وقد نقل قول البقاعي في ذلك دون أن يعقب عليه، مع ما فيه من تعسف وتكلف ممقوت.

كما اهتم الشربيني ببيان المناسبة بين الآيات نفسها أيضًا، من ذلك ما ذكره في مناسبة قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] للآية التي قبلها حيث قال: "ولما ذكر تعالى فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله، وما أعدّ لهم من الثواب بين تعالى أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها بقوله تعالى: {والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار}".

هذه هي أبرز معالم منهج الإمام الشربيني في تفسيره: (السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير) فجزاه الله عن القرآن وأهله خير الجزاء.