ابن الجوزي هو جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الحنبلي، ولد في بغداد عام: (510 هـ) ومات فيها عام (597 هـ)، نشأ يتيمًا في بيت غنىً وترف، فلم يمنعه يتمُه ولا كثرة ماله من طلب العلم، لا سيما وأنه عاش في بغداد البيئة العلمية النشطة، ومحط أنظار العلماء، ولذا نجد في سيرته أنه تعلم على أكثر من ثمانين عالـمًا في بغداد ليسوا من العراق، فبرع في شتى العلوم الشرعية، لا سيما علم الحديث منها، وخلف العديد من المؤلفات منها: جامع المسانيد، والواهيات، والضعفاء، وغريب الحديث، والمغني في علوم القرآن، وتذكرة الأريب في اللغة، والموضوعات، والمنتظم في التاريخ، والناسخ والمنسوخ، ومن مؤلفاته المغني في تفسر القرآن وهو كتاب ضخم كبير، ثم إن ابن الجوزي قد اختصر هذا التفسير في كتاب سماه: زاد المسير، وهو التفسير المعروف والمنسوب له.
كان ابن الجوزي من العلماء الذين نصوا على مقصدهم في تفسيره فقال: "لما رأيت جمهور كتب المفسّرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة في كتب، فربّ تفسير أخلّ فيه بعلم النّاسخ والمنسوخ، أو ببعضه، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول، أو أكثرها، فإن وجد لم يوجد بيان المكيّ من المدنيّ، وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم الآية، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع في الآية، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة، وقد أدرجت في هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه".
وتفسير ابن الجوزي وإن كان يصنف ضمن التفاسير بالمأثور؛ إلا أن مؤلفه لم يقتصر على ذلك، بل لقد جمع فيه شتى فنون التفسير أيضًا، كما نص على ذلك في مقدمة تفسيره، ويمكن أن نورد لكل ذلك أمثلة لبيان منهجه في بيان ما أراد من تفسيره، وذلك فيما يأتي:
أولًا: نماذج من التفسير بالمأثور: فسَّر ابن الجوزي الذين أنعم الله عليهم في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، بأنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحين، وقد أخذ ذلك من قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، وفسر ابن الجوزي قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] بما ورد في السنة وهو أن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له، قال: "وفي الصّحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب هلك»، فقلت: يا رسول الله، فإن الله يقول: «فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا»؟! قال: ذلك العرض»، وفسر ابن الجوزي معنى أحسنوا في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} [يونس: 26] بما ورد عن ابن عباس فقال: "قال ابن عباس: قالوا: لا إِله إِلا الله"، وفسر قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] فسره بقول طاووس ومجاهد بأنه: "لا أجد محرمًا مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا".
ثانيًا: نماذج من علوم التفسير: كان مما ميَّز تفسير ابن الجوزي إكثاره من إيراد علوم التفسير التي رأى أن التفاسير قبله قد قصرت في إيرادها كلها، وأن إيرادها مما يعين على فهم كتاب الله تعالى، ومن ذلك ما يأتي:
1. الاستشهاد بالقراءات: وقد عرَّف ابن الجزري علم القراءات بأنه: "علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة"، وكان من منهج ابن الجوزي الإكثار من إيراد القراءات في تفسيره والاستدلال بها على ما يفسر به الآيات، ولا تكاد تخلو آية في تفسيره من ذكر القراءات، فكان يذكر أقوال القراء في الآية ويوجهها، لا سيما وأنه قد نبغ في هذا العلم حتى ألف فيه كتابه: الإشارة إلى القراءة المختارة، ومن أمثلة ما استدل له بالقراءات تفسيره لقوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] فقال: "أي: أخبرهم، وروي عن ابن عباس: «أنبئهم» بكسر الهاء، قال أبو علي: قراءة الجمهور على الأصل، لأن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه، ألا ترى أنك تقول: ضربهُم وأبناءهُم، وهذا لهُم، ومن كسر أتبع كسر الهاء التي قبلها، وهي كسرة الباء"، فهنا نجد ابن الجوزي قد ذكر الأقوال في قراءة أنبئهم، واختار قول الجمهور لأنه على الأصل كما قال، وهكذا فعل في كل ما ذكر.
2. أسباب النزول: المقصود بسبب النزل: معرفة ما نزلت الآية أو الآيات مبينة لحكمه أيام وقوعه، وكان من منهج ابن الجوزي إيراد أسباب نزول السورة أو الآية التي يفسرها إن كان قد ورد شيء من ذلك، يستعين بذلك على فهم معنى الآية وتفسيرها، ومن أمثلة ذلك: أن ذكر في تفسير قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] سبب نزول الآية فقال: قالت عائشة للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: أنحشر عراةً؟ قال: نعم. قالت: واسوءتاه، فأنزل الله عزّ وجلّ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، وكان أحيانًا ما يذكر الأقوال والخلاف في سبب نزول الآية دون أن يرجح رأيًا منها على رأي.
3. الناسخ والمنسوخ: معرفة الناسخ والمنسوخ من أساسيات علوم التفسير، ولا يمكن معرفة الأحكام الشرعية الاستنباطية، وتفسير تعارض النصوص إلا بمعرفته، وابن الجوزي ممن اهتم بإظهار هذا العلم في تفسيره، إضافة إلى تخصيصه هذا العلم بمؤلف مستقل سماه: الناسخ والمنسوخ، ومن أمثلة ما أورده أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] "كان حد الزانيين، فيما تقدم، الأذى لهما، والحبس للمرأة خاصة، فنسخ الحكمان جميعا، واختلفوا بماذا وقع نسخهما: فقال قوم بحديث عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، الثَّيِّب بالثَّيب جلد مائة، ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة» وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة، وقال قوم: نسخ بقوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ}"، وكان من منهج ابن الجوزي في ذكر الناسخ والمنسوخ أن يذكر الأقوال في الغالب دون أن يرجح بينها.
هذا إضافة إلى توسع ابن الجوزي في بسط معاني الآية من حيث اللغة، والاستشهاد عليها بكلام العرب وأشعارهم.