الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قبس من دروس الهجرة النبوية

قبس من دروس الهجرة النبوية

قبس من دروس الهجرة النبوية

كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حدثا عظيما، وأمرًا خطيرا، وخطبا جليلا، ينبغي أن نتأمله طويلا، ونأخذ منه الدروس والعبر؛ فقد كان مليئا بها، فمن دروس الهجرة المطهرة:

أولا: أن الكفر والإيمان لا يلتقيان
وهو درس إيماني كبير وأصل عقدي ثابتٌ لا يتغير، فالكفر ملةٌ تضادُّ الإيمان، ومنهج يخالف منهج الإسلام، فهما متباينان مختلفان متضادان لا يلتقيان؛ فللكفر منهجه وللإيمان منهجه، ومنهج الكفر له أهله وجنوده وأولياؤه، وله معسكره وفسطاطه الذي ينحاز إليه أهله ويدافعون عنه، ومنهج الإيمان أيضا له أهله وجنوده وأولياؤه، وله معسكره وفسطاطه.

وأهل الكفر لا يتركون لأهل الإيمان سبيلا لأن يُظهِروا إيمانَهم أو يفرضوا عقيدتَهم، فهم على مرِّ الأزمان يحاربونهم ويمنعونهم من إظهار دينهم وشعائرهم؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ـ رغم أنه كان يدعو إلى كل خلقٍ حسن وكل أمر جميل ـ إلا أن الكفارَ لم يقبلوا منه هذا وعاشوا على عقيدتهم، واتخذوا من الدين وأصحابه عدوا لدودا.

ثم إن منهج الإيمان منهج يستمد كل تصوراته وتشريعاته وقوانينه وأدبياته من وحي السماء من كتاب الله وسنة رسوله، ويصيغ حياة الإنسان كلَّها بحيث تكون في مبتداها ومنتهاها من الله.. وأما منهج الكفر فسبله مختلفة وطرقه معوجة، ومصادره منحرفة، لا تكاد تلتقي إلا في شيء واحد هو أنهم لا يأخذون عن الله سبحانه أي شيء.. فشتان بين المنهجين، وما أبعد ما بين الدعويين.

وقد أثبت التاريخ أن منهج الكفر لا يقبل بوجود المنهج الرباني أصالة؛ لأنه يناقضه في كل شيء، فهو يحاربه ويحارب أهله ويعمل للقضاء على وجودهم أصلا، إما بقتلهم أو بحبسهم أو بنفيهم من أرضه إن لم يمكنه القضاء عليهم.. كما قال سبحانه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}(الأنفال: 30). وقد أخرجوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فعلا بعد أن حاولوا قتله، فأخزاهم الله، وأنقذه منهم، وأفشل مخططهم.

وهذا الحال واقع سواء في عهد النبوة أو في أي زمن؛ ولهذا ينبغي على المسلم أن يعلم هذه الحقيقة وهذه القاعدة، وأن منهج الكفر مضاد على الدوام لمنهج الإيمان، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}(سورة الكافرون).. ولهذا ستبقى المدافعة بين الفريقين قانونا عاما وقصة لا تنتهي.

ثانيا: أن دين العبد هو أعز شيء لديه وأغلى شيء عنده
وأن رضى الله تعالى يُضحَّى من أجله بكل شيئ، الصحابة رضوان الله عليهم علموا هذا وعرفوه، وقد ابتلاهم الله سبحانه ليعرف مدى صدقهم، كما أنه سيبتلي غيرهم كذلك، ليعلم مقام الله عندهم، وقدر الدين في قلوبهم.

الدين أعظم من المال، الدين أعظم من الأولاد، الدين أعظم من الزوجة، الدين أعظم وأكبر من الوطن، حتى الوطن؟ نعم حتى الوطن، فهو وإن كان من أعز الأشياء على الإنسان، فيه نشأ وترعرع وكبر، وفيه ملاعب الصبا ومراتع الشباب، والأهل والأحباب، ولكن لا ينبغي أبدا أن يكون أحب إلى العبد من الله ورسوله ومن دينه، لا ينبغي أن يؤله الإنسان بلده ووطنه كما قال البعض:
وطني لو صوروه لي وثنا .. .. لهممت ألثم ذلك الوثنا
وكما قال البعض أيضا:
هبوا لي دينا يجعل العرب أمة .. .. وسيروا بجثماني على دين برهم
ســلام على كــــفر يوحـد بيننا .. .. وأهــلا وسهــــلا بعــده بجــهــنم

هذا منهج باطل تماما، وإنما الإنسان يتخذ من وطنه مسكنا إذا كان يستطيع أن يقيم فيه دينه ويعلن فيه بشعائره، فإذا لم يستطع أن يفعل ذلك في بلده أو وطنه فيلزمه ويجب عليه أن يهاجر من ذلك المكان إلى مكان آخر يستطيع أن يعبد الله تعالى فيه ويظهر شعائر دينه، وهذا عين ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعه عليه صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

وقد نعى الله تعالى على قوم امتنعوا عن الهجرة فقال سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ قَالُوٓاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا}(النساء:97)، والله تعالى يقول: {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}(النساء:100).

فإذا كان الوطن لا يسمح لك أن تقيم دين الله، ويحارب الدين ويحارب أهل الإيمان، ولا تستطيع أن تقيم فيه شعائر دينك، فاتركه وهاجر كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فقد ترك صلى الله عليه وسلم أشرف مكان يمكن أن يجلس فيه ويعاش فيه وهو مكة حرم الله وبيته، ولما خرج كان ينظر إلى مكة ويقول: والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله ، وإنك لأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.
فلماذا خرج؟ لأنه كان يريد أن يقيم دين الله وهم يمنعونه من هذا، فكان لابد أن يخرج إلى مكان يتمكن فيه من إقامة الدين والدولة المسلمة والدعوة إلى الله، ويُمَكِّن لدين الله في هذا المكان ثم بقية الأرض.

ثالثا: عظمة الصحابة
لقد تجلت عظمة الصحابةِ رضون الله عليهم ـ المهاجرين والأنصار ـ في هذه الهجرة، وأثبتوا أنه ليس شيء أغلى عندهم من الله ولا أعظم في قلوبهم من دينه، ولهذا ضحوا من أجل هذا الدين بكل شيء، وباعوا كل شيء حتى نفوسهم، تركوا ديارهم وأوطانه، وتركوا بيوتهم وأموالهم، وتركوا أهليهم وأقاربهم وحتى أولادهم، تركوا كل شيء يمكن تركه.. لماذا؟ فقط.. لينالوا رضا الله تعالى ويقيموا دينه.
ولهذا أثبت الله لهم هذا الموقف العظيم في كتابه، وشهد لهم بالصدق فيما فعلوا، وأنهم إنما فعلوا ذلك لله وحده، ونصرة لدينه، وأنهم صادقون كل الصدق فيما فعلوه.. فقال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحشر:8).

وتجلت عظمة الأنصار أيضا في استقبال إخوتهم في العقيدة وإيوائهم والإحسان إليهم، حتى آثروهم على أنفسهم، فمدحهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر:9).

رابعا: ضبط مفهوم التوكل
وأنه بذل الجهد مع الأخذ بجميع الأسباب، وعدم ترك أي شيء للصدفة ما أمكن، ثم بعد ذلك يأتي الاعتماد على رب الأسباب والتعويل عليه في كل ما خرج عن قدرة الإنسان ولا يملك فيه حيلة.
وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته في كل فصل من فصولها، إعداد الرواحل، واتخاذ الصديق، والتعمية على المشركين، والعسس على أخبار الكافرين، التعفية على آثاره ومن معه، البقاء في الغار ثلاثا حتى يخف الطلب، والسفر من طريق غير معهودة، واتخاذ الدليل الخريت العالم بالطريق، إلى آخر ذلك من الأسباب.

فلما خرج الأمر عن القدرة وجاء المشركون إلى الغار، ولم تكن هناك حيلة، كان التوكل التام على الله سبحانه؛ فلما قال أبو بكر: (لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!)(البخاري).

رابعا: حفظ الله لأوليائه
ومن جميل دروس الهجرة: أن الله تعالى لا يُسلِم أولياءه، ولا يترك أحبابه، ولا يخيب جنده ومن عمل في طاعته، وقد تجلى هذا الحفظ في مواقف الهجرة أيضا كلها، ومع كل من شارك فيها:
فعند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته ليلة الهجرة، وقد أحاط شباب قريش وفرسانها بالبيت يريدون قتله، وعند الغار حين أتاه المشركون فصرفهم الله عنهم خزايا خائبين، وفي ردِّ سراقةَ بنِ مالك بن جُعْشَم عندما أدرك النبي وأبا بكر في طريق الهجرة، وفي حفظ علي رضي الله عنه من أن يبلغ المشركون به القتل أو يلحقوا به الأذى عندما بات في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أسماء بنت أبي بكر وإخوتها حفظهم الله من الكفار عندما ذهبوا إلى بيتهم ليسألوا عن أبيهم رضي الله عنه وعنهم أجمعين.

وفي هذا إشارة لكل مسلم مؤمن بالله، ولي لله متوكل عليه، عامل بطاعته متمسك بشريعته، أن يعلم أن الله معه، وأنه ناصره، وأنه لا يخزيه، فإن الله لا يسلم أهله وأولياءه.
وفي الهجرة دروس لا تنتهي، ولكن هذا غيض من فيض، نسأل الله أن ينفعنا بالهجرة ودروسها. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة