مما اتفقت عليه كلمة المسلمين، وسلم به أهل الملة والدين: أن الولاء والبراء جزء لا يتجزأ من دين الله الذي جاء به خير المرسلين صلى الله عليه وسلم.
والولاء والبراء عند العلماء يرجع إلى معنيين اثنين بالتحديد، هما: الحُبُّ والنُّصْرةُ في الولاء، والبغض وعدم المظاهرة في البراء.
وقد بحث علماء الإسلام مسألة الولاء والبراء بحثا معمقا وبينوا مراد الشريعة في ذلك، وأوضحوا أن الولاء والبراء جاءا ليحافظا على كيان الأمة وليشعر أفرادها أنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له كل الجسد، وتماسك كل المجتمع.
والولاء والبراء من مبادئ الوسطيّة والسماحة والرحمة، وذلك يظهر من خلال النقاط الآتية التي لا تزيد على أن تكون أمثلة لعدم تعارض الولاء والبراء مع سماحة الإسلام:
- لا يجبر أحد على دخول الإسلام قال الله تعالى [لا إكراه في الدين]
- أمر الإسلام بوجوب الوفاء بالعهود، والرحمة بأهل الذمة.
- الوصية بأهل الذمة وصيانة أعراضهم وأموالهم، وحفظ كرامتهم.
- اختلاف الدين لا يُلْغي حقَّ ذوي القربى، وقد أمر القرآن ببر الوالد وإن كان على غير ملة الإسلام.
- البرّ والإحسان والعَدْلَ حقٌّ لكل مْنْ لم يقاتل المسلمين أو يُظاهر على قتالهم.
والعلماء عندما يعرفون الولاء يقولون هو: حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين.
ويقولون في البراء : بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى من الأصنام الماديّة والمعنويّة: كالأهواء والآراء، وبُغْضُ الكفر بجميع ملله وأتباعِه الكافرين، وعدم موالاة ذلك كُلِّه.
و الأصل أن الدين قائم على الرحمة المطلقة بجميع الخلق، وأن سماحة الدين تشمل كل الناس، وقد أمر الله في كتابه بالعدل والبر لكل مسالم نتعامل معه، بل نحن نتألف غير المسلمين ونرفق بهم حتى نخرجهم من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام، ولا يتأتى ذلك لمن يشد على الناس، ويغلظ في معاملتهم.
إذن الولاء والبراء هما من لازم الدين، ولكن الخلل يتسلل لبعض الناس من الفهم السقيم لنصوص الوحيين، ويأتي التشنج وسوء الفهم من أناس لم يدرسوا الشريعة دراسة عميقة، ولم يردوا الأمر لأهل التخصص من العلماء الربانيين، وحملة الشريعة المجيدين، والحق يقول:[فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون](سورة الأنبياء).
وقد ذكر علماء الإسلام فروقاً بين الرفق بالناس، والولاء والبراء في الدين؛ من ذلك ما ذكره الإمام القرافي لبيان الفرق بين الأمر بعدم موالاة الكفار، والأمر ببر أهل الذمة منهم والإحسان إليهم، قال رحمه الله تعالى : "وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعيَّن علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبيل ما نُهي عنه في الآية وغيرها"، ثم فصل كلامه بذكر بعض الأمثلة.
وقد بين العلماء أن الحب القلبي لغير المسلمين ليس شيئًا واحدًا، فمنه ما ينقض الولاء والبراء من أساسه، ومنه ما يَنْقُصُ من الولاء والبراء ولا يَنْقُضُهُ، فيكون معصيةً تَنْقُصُ الإيمانَ ولا تنفيه، ومنه مالا يؤثر في كمال الإيمان وفي مسألة الولاء والبراء، لكونه مباحًا من المباحات أمّا الحبّ القلبيُّ الذي يَنْقُضُ الولاء والبراء وينفي أساسَ الإيمان: فهو حُبُّ الكافر لكُفْره.
ويمكن أن نقول خلاصة ما ذُكر في هذا الباب على النحو التالي: أن الحبّ القلبي الذي لا يصل إلى حدّ النَقْض، لكنه يُنْقِصُ الإيمانَ، ويدل على ضعفٍ في الولاء والبراء، فهو: محبّة الشخص كافرًا أو مسلمًا لِفسْقِه أو لمعصيةٍ يقترفها، فهذا إثمٌ ولا شك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ إذْ لايزال في المسلمين من يحبّ المعاصي ويقترفها، ولم يكفّرهم أحدٌ من أهل السنة.
وهذا الحبّ قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحبّ محبوبًا لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبّه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم مَن ارتكبها.
وأمّا الحبّ المباح فهو الحب الطبيعي، وهو الخارج عمَا سبق، كحبّ الوالد لولده الكافر، أو الوَلَدِ لوالديه الكافرين، أو الرجل لزوجه الكتابيّة، أو المرْءِ لمن أحسنَ إليه وأعانه من الكفار، فهذا الحُبّ مباح، ما دام لم يؤثر في بُغْضه لكفر الكافرين، وفسق الفاسقين، ومعصية العاصين.
ومع هذه السماحة في الدين واليسر في المعاملات الحياتية، مع ذلك للأسف الشديد ظهر في هذه العصور من فهم الولاء والبراء فهما مغلوطا، ونصبهما ميزاناً أمام الناس، فحاكم ضمائر المسلمين، وجعل كل معاملة داخلة تحت هذا الباب، فإن سمع بشاب يحب لاعب كرة مشهور جعل ذلك في ميزان الولاء والبراء، وهكذا اتُهم الناس في دينهم، وكان الشطط سمتا غلب على هؤلاء، فكانوا وبالا على مجتمعاتهم، يحاكمون النيات، ويرصدون الخطوات لتجريم المسلمين واتهامهم في مواقفهم، ومعاملاتهم من غير ضوابط، ولا بصيرة في الأمر.
ولو علم هؤلاء مقدار مااقترفوه من تشويه لصورة الإسلام السمحة، ومحجته البينة لأمسكوا عما هم فيه، ولكن كما قيل :
يُقضى على المرء في أيامِ محنتهِ حتى يرى حَسَناً ما ليسَ بالحَسَنِ
وقد دفعهم لذك الاستعجال والتهور ولو أنهم تأنوا لكان خيرا لهم وأرحم لأمتهم:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
ويمكن التوصل في الختام للنقاط التالية:
- أن الولاء والبراء ليس خاصًّا بالمسلمين، بل كُلُّ أتباع مذهبٍ أو دينٍ، لا بُدّ أن يكون بينهم ولاء، وأن يكون عندهم براءٌ ممن خالفهم.
- أن الولاء والبراء فِطْرةٌ فطر عليها البشر كلّهم، ولا بُدّ من بقائه على وجه الأرض، ما دام بين الناس اختلافُ عقائد ومناهج.
- أن الولاء والبراء ما دام من دين الإسلام، فلا بُدّ أنه مُصْطَبِغٌ بسماحته ورحمته ووسطيّته.
- أن الولاء والبراء لا يُعارِضُ حُرّيةَ بقاءِ الكافر الأصليِّ على دينه.
- أن الولاء والبراء بناءً على ذلك ليس معتقداً يخجلُ منه المسلمون، بل هو مطلبٌ عادل، لا تخلو أمةٌ تريدُ العزّةَ لأبنائها مِنْ أن تعتقدَه وتتبنّاه منهجاً لها.
- أن الغلو في الولاء والبراء خطأٌ لا يَخُصُّ المسلمين وحدهم فالغلوّ ظاهرةٌ لا يخلو منها مجتمع بشري، على أي دين أو مذهب.
فبهذه الأخلاق والآداب يُعامل المسلمون غيرَ المسلمين، وهذه الأخلاقُ والآداب من دين الإسلام، يأمرهم بها كتابُ ربهم وسُنَّةُ نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وما دامت من دين الله تعالى، فلا يمكن أن تتعارض مع حكم آخر من دين الله تعالى أيضاً، وهو الولاء والبراء، كما توهم الجهلة، وخفاف العقول.