الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عقيدة الإسلام.. واحترام العقل والفطرة

عقيدة الإسلام.. واحترام العقل والفطرة

عقيدة الإسلام.. واحترام العقل والفطرة

وصف الله تبارك وتعالى أمة الإسلام وأتباع النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم الأمة الوسط، فقال تبارك وتعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]... فما معنى الوسطية؟ وما هي مظاهرها في دين الله؟

مفهوم الوسطية
الوسطية في لغة العرب تدور حول ثلاثة معان:
أولها: العدل والعدالة، كما قال الله تعالى في سورة القلم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}[القلم:28]، ومعنى أوسطهم أي أعدلهم.
وكما قال الشاعر:
همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم .. .. إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
فهم قوم يحكمون إذا حكموا بالقسط، فهم أهل عدل وأهل حق وأهل قسط، فيكون معنى {جعلناكم أمة وسطا} أي جعلناكم عدولا؛ فإن الشهادة لا تقوم إلا بالعدل، ولا تقبل إلا من العدل. [انظر فتح الباري: ج13، ص613].

المعنى الثاني: الخيرية
كما تقول: "كان رسول الله أوسط العرب نسبا" أي خيرهم وأفضلهم وأحسنهم نسبا.
ولذلك ارتبطت الوسطية والخيرية فقرنا جميعا، فبين وصف الأمة بالخيرية ووصفها بالوسطية تلازم، إذا أن الوسط في لغة العرب الخيار"[أضواء البيان: ج1، ص87], ولذلك قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110].

وأما المعنى الثالث: فهو الوسط بين طرفين، والفضيلة بين رذيلتين، والحسَن بين قبيحين.
كانت هي الوسط المحميّ فانفرقت .. بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

وأما الوسطية في معناها العام فهي: التوازن والاعتدال واختيار الأكمل والأفضل في جميع الأحوال، فهي وسط بين طرفي الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير.. فكل أمر له طرفان مذمومان، إما إلى إفراط، وإما إلى تفريط، والوسط هو التوازن بينهما.
وقد جمع الله لأمة الإسلام الخيرية والوسطية والتوازن والاعتدال في جميع أمورها: فهي متوازنة معتدلة في عقيدتها، متزنة معتدلة في شريعتها، وكذلك هي في عبادتها وأخلاقها وجميع أعمالها. حتى حازت من كل جانب من هذه الجوانب خيره وأفضله وأحسنه.

.ومن مظاهر الوسطية في الإسلام:
الوسطية والتوازن في العقيدة

فعقيدة الإسلام عقيدة معتدلة متوازنة تقوم على: اعتبار الفطرة، واحترام العقل، والاستنارة بنور الوحي.
فهي تراعي فطرة الناس وتعتبرها، ذلك أن الله فطر الخلق متدينين بفطرتهم، لابد لهم من إله يعبدوه، ودين يتدينوه، وجعل الله فطرتهم على الحنيفية السمحة كما جاء في كتاب الله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَاۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه}[الروم:30]. فاعتبرت عقيدة الإسلام هذه الفطرة في الإنسان كما في الحديث القدسي: (إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا)[رواه مسلم].

وهي عقيدة تحترم العقل احتراما شديدا، فليس فيها ما يرده العقل السليم، ولا ما يناقضه، لأن الذي أتى بالعقيدة هو الذي خلق الإنسان وعقله، ولا يمكن أن يكون هناك تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح، لأن العقل خلق الله والشرع والعقيدة أمره فكيف يتناقض خلق الله مع أمر الله؟ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54].

التوحيد والتثليث:
ولذلك لا يمكن أن تجد في عقيدة الإسلام ما يسمى بعقيدة الثالوث أو التثليث أو ما يشابهها، لأنها عقيدة متناقضة مع العقل في ذاتها وفي كل أمورها، غير مفهومة في تفسيرها، حتى إن أئمة أتباعها لم يستطيعوا أن يأتوا لها بتفسير يقبله عقل إنسان سوي.
من هي مريم؟ هي أم المسيح، حملته في أحشائها، ثم وضعته، ثم أرضعته.
فمن هو المسيح: هو ابن مريم، وهو إلهها الذي خلقها، فهو الابن الذي خلق أمه.
من هو عيسى؟ قالوا: هو ابن الله.. فمن هو الله إذن، قالوا: هو عيسى ذاته. فعيسى هو الابن الذي خلق أباه، والرب الذي خلق خالقه، وهو الإله الذي خلق نفسه، وهو في ذات الوقت رب العالمين الذي خلق الخلق أجمعين ويتحكم فيهم وينبغي عليهم أن يعبدوه.
ما هذا يا عباد الله؟ كيف يكون هذا؟ ابن خلق أمه، وإله خلق ابنه، والابن خلق ربه الذي هو إلهه الذي خلقه، وهذا الابن هو الإله الذي خلق جميع الخلق وله الدينونة عليهم.
فهذه عقيدة الثالوث العجيبة التي أعجزت كل صاحب عقل أن يعرفها أو يفهمها.

وأما عقيدة الإسلام في الله سبحانه، فواضحة ناصعة بسيطة يسيرها، لا تثليث ولا تربيع، إنما الله إله واحد: {قل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}[سورة الإخلاص].
فهل هناك أيسر من هذا، ولا أسهل، ولا أوضح ولا أجمل ولا أكمل ولا أعقل من هذا، عقيدة واضحة ناصعة لا يمكن للعقل أن يردها أو يناقش فيها، فالإله لا ينبغي إلا أن يكون واحدا، ولا ينبغي أن يكون له ابن ولا أب ولا زوجة، بل هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الخالق الرازق، الرب المعبود، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وليس له نصير ولا ظهير نظير، فلا ند يساميه ولا أحد يساويه.. كما قال سبحانه ردا على هؤلاء الضالين وأمثالهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْۖ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:100-103].

الصلب والفداء
وأعجب من عقيدة التثليث ما يسمونه بعقيدة الصلب والفداء، أو الخلاص، وخلاصتها أن آدم لما عصى ربه وأكل من الشجرة وقع في الخطيئة، وأن أبناء آدم ورثوا هذه الخطيئة من أبيهم، فكان لابد من تخليصهم من هذه المصيبة التي ستوبقهم في النار.. فماذا نفعل؟
قالوا: نزل الله تعالى إلى الأرض في صورة ابنه البكر، أو بعث الله ابنه البكر الذي هو إله أيضا، ليتحمل عن الناس خطيئتهم، فأخذه اليهود، فضربوه، وعذبوه، وأهانوه، ووضعوا على رأسه إكليلا من الشوك زيادة في إهانته، وصلبوه على الخشبة (الصليب)، ثم قتلوه.. فغفر لهم بهذا خطيئتهم. وأصبح المسيح من وقتها هو يسوع المخلص الذي خلص البشرية من خطيتها؟
هراء.. وسذاجة.. واستخفاف بعقول العباد.. وطعن في الإله.. وحتى من زعموه ابن الإله.

أولا: لا تدري ما علاقة ذرية آدم بخطيئة أبيهم.. أخطأ آدم فأكل من الشجرة، فهو الذي أخطأ.. فما ذنب الآخرين بخطيئته؟ والله تعالى يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}[فاطر:18]، ويقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، ويقول: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}[فصلت:46]. فلماذا يؤاخذ العباد بذنب لم يعملوه، ولماذا تلزمهم خطيئة لم يرتكبوها؟

ثانيا: هل المغفرة والتوبة على العباد تحتاج كل هذا المسلسل الهزلي، ينزل الله من سماواته، أو حتى يرسل ابنه المزعوم لأشد وألد أعدائه اليهود ليعذبوه ويهينوه ويصلبوه ثم يقتلوه، وهو عاجز أن يحميه منهم، أو يدافع عنه، ولو كان مخلوقا لما ترك ابنه الوحيد ليفعل به أحد مثل هذا..
هذا إذا كان عيسى هو ابنه على زعمهم، أما إذا كان عيسى هو الله نفسه كما يزعم أكثرهم، فأي إله هذا الذي يفعل به خلقه كل هذه الإهانات والسخافات.. ثم بعد ذلك يقتلوه.. فهل قتل المخلوق خالقه، وهل يستحق هذا أن يكون إله الكون المعبود؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

ثالثا: لماذا يعظم النصارى الصليب؟ إذا كان إلهكم قد صلبه اليهود أعداؤه على الصليب فكان رمزا لموت معبودكم وإلهكم، وعلامة كبرى لإهانته والاستهزاء به، فهل حق هذا الصليب أن تعظموه وتقدسوه، وتتخذوه رمزا لديانتكم، أم كان الأولى أن تحرقوه وتحرقوا كل من لبسه أو نصره لأنه يذكركم بإهانة خالقكم وموت معبودكم؟

إذا.. فكيف ينظر الإسلام إلى خطيئة آدم؟
في منتهى البساطة نقول: مخلوق أخطأ في حق خالقه، وعبد عصى ربه، فإما أن يعذبه الله وإما أن يتوب عليه، وما أهون التوبة على الله، وقد أخبرنا سبحانه أن آدم استغفر ربه، وتاب إليه وأناب ورجع وأنه سبحانه قبل توبته، كما قال جل في علاه: {وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ . ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ}[طه:121-122].

موت معبودهم وقيامته
ومن المصائب والمصائب جمة، أنهم جمعوا إلى جانب هذه الخزعبلات ما هو أشد وأسوأ، وهو ما يسمى بقيامة المسيح التي اتخذوها عيدا فسموه عيد القيامة..
وهي أسوأ من سابقتيها، ذلك أنهم زعموا أن ابن الله الذي هو إله في ذاته، لما مات قبروه ودفنوه وغيبوه في القبر ثلاثة أيام أو سبعة، ثم قام من موته، بعد أن أحيا نفسه بنفسه، أو أحياه أبوه الذي هو نفسه، وخرج من قبره ثم صعد إلى السماء فجلس بجانب أبيه على عرشه ليحكم العالم ويدبر أمره.

عجيب والله، إله يموت، ويوضع في القبر، ثم يبعث من موته.. فإن قالوا: هو ابن الله قلنا تنزلا، مات وقبر ودفن، وأماته الله الذي هو عندكم أبوه، فلا يصلح من يموت أن يكون إلها، وإنما الإله من أماته وأحياه وتحكم فيه وكان يدبر العالم والخلق وقتما كان هو في القبر، فلا حاجة لإله آخر.
وإن قلتم الذي مات هو الإله ذاته، فلعمري هذه أعجب وأطم، فكيف يموت الإله، ومن الذي أماته، ولما مات من الذي كان يحكم العالم، أم أنه كان يحكمه وهو ميت في قبره، ثم من الذي بعث الإله الميت من موته؟
فإما أنكم لا تعلمون معنى الموت، وإما أنكم لا تعلمون معنى الإله..
وبعد كل هذا المطلوب من الناس ومن العقل أن يقبل هذا الدجل والسفه والهراء على أنه دين وعقيدة وإيمان، وأن هذه حقيقة الألوهية والربوبية وهكذا يدار الكون.

وما أجمل عقيدة الإسلام واكملها وأحسنها وأعقلها وأتمها، يقول سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَاۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255].

ومثل هذه العقائد الباطلة الفاسدة ستجدها في كل الأديان الأرضية، أو ما كان منها سماويا فحرف، وحفظ الله عقيدة المسلمين من كل هذا السفه والعته، وجعلها موافقة سهلة بسيطة يسيرة موافقة للعقل السليم والفطرة السوية.

الاستضاءة بنور الوحي
لكن لما كان العقل محدودا لا يستقل وحده بمعرفة الخير والشر، والاطلاع على المغيبات، أرسل الله الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ليعرِّفوا الناس بربهم وخالقهم وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وما يرضاه وما يسخطه، وليعرفوهم بما أحلَّ لهم وبما حرم عليهم؛ ليستقيموا على أمره، وليعرفوهم بما بعد الموت، وماذا في القبر، والقيامة والحساب والسراط والميزان، وبالجنة ونعيمها، والنار وجحيمها؛ لتستقيم الفطر على قانون الله، وليتبين للناس ما غاب عنهم مما لا تدركه العقول بمفردها.

فما لا يستقل العقل بمعرفته أمده الشرع بنور الهداية فيه، وتبيين الصواب من الخطأ، والحق من الباطل عن طريق الوحي، ولذلك قال سبحانه: {نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ}[النور:35]، أي نور الوحي مع نور الفطرة والعقل، فتتم النعمة حتى تقوم حجة الله على الناس ويقطع عنهم المعاذير.
قال ربي سبحانه: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات:17}.
فالحمد لله على نعمة الإيمان، ونعمة الإسلام، وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة