ضرب عرب الجاهلية مثلا رائعا في الاعتماد على النفس، اشتهروا بمغامراتهم ورحلاتهم لغرض التجارة، وكانوا إذا شَحَّتْ عليهم سماؤهم وأقحطت أرضهم تنبهت فيهم غريزة حفظ النوع، فلا يرون غير الاعتداء على جيرانهم، يستلبون منهم ما يسد جوعتهم.
ولما جاء الإسلام وبطل الغزو والتعادي أصبحوا يتكلون على خالقهم، كما كانوا يتكلون على أنفسهم، وعُوِّضوا عن الغصوب بما أتاهم به الحدث الجديد من المغانم، وكانوا إذا فتحوا بلدًا هبوا لاستعمار غَوْره ونجده، فشادوا المدن وأحيوا الموات، وفجروا الأنهار، وأقاموا السدود، وعمروا الرياض والغياض، وبفرض العطاء — أي: الرواتب — لأشرافهم ومن تبعهم، وبتحريم الربا والبيوع الفاسدة، وزعت الثروة فزادوا توسعًا في معايشهم أكثر من يوم كانوا فيه ولا قوة تحميهم في السفر والحضر.
شَرْعُ العرب موجز وسريع التنفيذ، وتدابيرهم معقولة مقبولة حتى في الجاهلية، وكانوا إذا صح عزمهم على أمر فيه صلاح معادهم أو معاشهم تجلى حزمهم وجدهم، وهذه الصفات تَقْوى وتضعف فيهم بحسب العصور والأمصار.
ومنذ فجر الإسلام أنشئوا يبنون جوامعهم ومساجدهم بأنفسهم، وينصبون لها الخطباء والأئمة، ويقومون بشئونها لا يكلفون بيت المال شيئًا، كانوا يعرفون عالِمهم وتَقِيَّهم وداهيتهم كما عرفوا في جاهليتهم شاعرهم وخطيبهم وكاهنهم، وما كان العارف فيهم — وعلى كل واحد زاجر من نفسه — يتصدى لما ليس له بأهل، فلا يقضي ولا يُفتي ولا يعظ ويخطب إلا إذا شهد له الثقاتُ بالفضل حتى لا يَضل به المهتدي ويَزل المسترشد.
يقول صاحب كتاب "(أقوالنا وأفعالنا) : "ولما نزع العرب في العصور التالية لإقامة رباطاتهم ومدارسهم ودور مرضاهم وضيافتهم وسائر مصانعهم، حبسوا عليها من الأوقاف ما يقوم بها على الأيام، طيبةً نفوسُهم بما بذلوا، وإلى هذا كانوا يعاونون حكوماتهم فيما يقيم المرابطين من مؤنة وخيل وسلاح؛ لعلمهم بأن عزهم مناط عزة حكومتهم، وسلامة أعراضهم وعروضهم في دفع أذى أعدائهم عن ديارهم، وكان يندر فيهم من يحيد عن سَنن الفضيلة، يرون الأمانة أمرًا طبيعيًّا، والصدق فرض عين، والبعد عن المأثم نبلًا ومروءة، ولذلك خلا بعض أمصارهم في القرن الأول من السجون؛ لندرة الجناة والمجرمين".
ومع أن الفردية تغلب على العربي أكثر من الجماعية، كان من العرب من يشتركون في مسائل تجارية كبرى، ويقسمون الأرباح بينهم، ويرضى كل واحد بما قسم له، وقل أن يرجعوا في اختلاف يَنْشُبُ بينهم إلى صاحب السلطان، يَفُضُّون خلافاتهم بمعرفة أهل الرأي والتجربة منهم.
وإلى اليوم نرى في نجوع بعض بلاد العرب مع بُعدها عن العمران شركات تجارية جمعت رءوس أموالها من الأغنياء والفقراء واشترك فيها الأقوياء والضعفاء، على مثال شركات الغربيين، وفيها الأمانة ماثلة كثيرًا.
كانت أعمال الأفراد في معظم العصور أكثر تضامنًا وأوفر عائدة مما تتولاه الدول؛ ذلك لأن عمل الفرد تظهر فيه المسئولية فيحتاج إلى التدقيق، وفي عمل الدولة تختفي التَّبِعات، ويزيد الإسراف في النفقات، ويتهاون بالجزئيات وأحيانًا بالكليات، ولذا رأينا السكك الحديدية والمعامل والمدارس وكل ما تديره الحكومات في الغرب والشرق من المشاريع أقل ريعًا وأكثر نفقة مما يديره الأهلون.
ومن أعظم البراهين على ما يُعمِل الاستقلال في الفكر والإرادة، وما ينجم عن الاتكال من انحلال وضعف، ما حدث في تأسيس الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا، فإن جماعات من الإنكليز غضبتْ عليهم ديارُهُم، لشقاوتهم، فنَفَتْهم، أو غضبوا هم على الدولة، لاضطهادهم في مذهبهم، أو تعذر العيش عليهم في مساقط رؤوسهم فنزلوا تلك الأقطار البعيدة، وما لبثوا أن أسسوا — معتمدين على أنفسهم — ممالك عظيمة جاءت في بعض مظاهرها أرقى من مواطنهم الأصلية.
واليوم نرى العربي يطلب كل شيء من حكومته؛ ولذلك يقل إبداعه، ولا يَطَّرِدُ سَيْرُ حياته، ولا تنمو ثروته، ولا تدوم نعمته.
روى أصحاب الأخبار أن أحد أبناء رؤساء جمهورية الولايات المتحدة شُوهد غداة انتخاب والده للرياسة مبكرًا إلى معمله على عادته، فقيل له: كان عليك أن تجعل من هذا اليوم عيدًا لك، وتنقطع عن العمل، وقد غدا أبوك رئيس الأمة، فقال: الرئيس أبي وأنا هنا عامل أشتغل لمستقبلي.
وقد نبه لخطورة هذه الاتكالية على الجيل الجديد عدة من المفكرين والكتاب العرب من ذلك ما كتبه الأستاذ محمد علي كرد قبل أكثر من ستين سنة حيث قال: "الحق أن التربية الاتكالية بادية في كثير من بلداننا العربية اليوم فالاستقلال الشخصي كهلال الشك لا يكاد يُرى، كأن التربية اللاتينية التي تلقفتها بلداننا لأول نهضتها قد أمرضتها فلم تسلم إلى اليوم من تأثيراتها على ما عُولجت به من طرق حديثة في التربية، ولو كان هناك خُلُق استقلالي ما شهدنا القوم يتهافتون على التوظُّف في الحكومة هذا التهافت المُبكي".
إن أمة يتهالك المتعلمون من بنيها ليجعلوا منهم آلات تتحرك بحركات غيرهم، ويعيشون كالحلمة الطفيلية بامتصاص خزانة الدولة، والأعمال الحرة الرابحة كثيرة أمامهم يتركونها للنازل عليهم، هي أمة محكومٌ عليها بأسوأ ما يُحكم به على مصاب بمرض عضال، وأي مرض أفتك في النفوس من الاتكال الذي يقضي على فضائل جمة في الإنسان، ومنها عزة النفس والإقدام.
يقول الدكتور حافظ عفيفي باشا في كتابه على هامش السياسة: "أما هذا التعليم الذي يحوِّل جميع شبان البلاد إلى موظفين، يعملون دائمًا ساعات محددة في النهار تحت إشراف رؤسائهم، ويتناولون أجرًا محدودًا يزيد في فترات معينة بقدر معلوم، ويُمضون حياتهم على هذا النظام الميكانيكي الذي لا أثر فيه للمجهود الشخصي، ولا يفتح بابًا للمجازفة والمغامرة أو تحمُّل التبعات، فهو تعليمٌ محدود الغرض لا يفيد إلا في تخريج العدد اللازم من الشبان لملء وظائف الحكومة، ولكنه مُضِرٌّ من جهات أخرى؛ لأنه يفسد الغرائز الطبيعية في جميع الشبان الذين يزيدون على هذه الحاجة."
وقد أكد عدد من دعاة الاصلاح والمفكرين أن نظم التعليم العربية المعمول بها اليوم تفسد غرائز المستخدمين وغير المستخدمين من الشبان، وتقتل فيهم روح الاستقلال، فيصبح الاتكال فيهم طبيعة ثابتة، وقد نبهت الدراسات ميدانية على خطورة المناهج العربية على الشباب اليوم إذ وصلت إلى أن أعدادا كبيرة من أذكياء أتموا دراساتهم الثانوية أو العالية وبعد ذلك أَخْمَلَهم الاستخدامُ فصاروا إلى خنوع ومسكنة، واستولى عليهم القنوط والتشاؤم، وأمسَوا لا يفكرون إلا في تخطِّي الدرجات والحصول على العلاوات.
ولم يعد الموظف يحمل نوازع التطوير والتقدم، لأن النظام العام للخدمة المدنية لا يحفز على ذلك.