الشِّرك الأصغر هو كلُّ ما نَهى عنه الشَّرع ممَّا هو ذَريعة إلى الشِّرك الأكبَر، ووَسيلة لِلوُقوع فيه، وهو غيرُ مُخرِجٍ مِنْ مِلَّة الإسلام، ومِنْ أنواع هذا الشِّرك: الرِّياء.. قال ابن القيم في "مدارج السالكين" في كلامه عن الشرك الأصغر: "وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع للخَلق، والحلف بغير الله تعالى، وقول الر جل ما شاء الله وشئتَ، وهذا مِنَ الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنتَ، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنتَ لم يكن كذا، وقد يكون شركاً أكبر بحسب قائله ومقصده".. والرياء ضد الإخلاص، والإخلاص: أن يقصد الإنسان بعمله الأجر والثواب مِنَ الله تعالى، قال ابن القيم: "الإخلاص هو إفراد الحق سبحانه بالقصد والطاعة". أما الرياء فمشتق مِن الرؤية وهو أن يعمل العمل ليراه الناس. قال ابن حجر: "الرياء هو إظهار الشخص العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدونه عليها". وقال القرطبي: "وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس"..
وقد أخبرنا النَّبيُّ صلى الله عّليه وسلم أنَّه إذا عَمِل الإنسانُ عَمَلًا مِنَ الطَّاعات، فأشرك فيه أحدا مع الله، وجَعَل عمله وطاعته للهِ ولِغيرِ الله، تَرَكَه اللهُ عز وجل فلم يَقبَلْه منه ولم يُعطِه ثَوابًا عليه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال اللَّهُ تَبارك وتعالى: أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَه) رواه مسلم.
(أنا أغنى الشركاء عن الشرك) أي: عن مشاركة أحد، وعن عملٍ فيه شرك. (مَنْ عمل عملا أشرك معي فيه غيري) أي: قصد بعمله غيري مِن المخلوقين. (تركتُه وشِرْكَه) أي: لم أقبل عمله، بل أتركه لغير ذلك..
قال ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "في هذا الحديث مِنَ الفقه أبلغ التشديد في أمر الشرك بأبلغ لطف في النطق، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حَرَّم أن يُشرك به، فإذا أشرك به أحد من عبيده تنزه سبحانه عن ذلك الشرك نطقا، كما تنزه عنه سبحانه حقيقة.. وقوله: (أنا أغنى الشركاء عنِ الشرك) ولأن الشريكين إنما يشتركان لكون قوة كل واحد منهما لا تنهض بانفرادها في مقاومة المقصود بما ينهض به مع مشاركة القوة الأخرى، والله سبحانه وتعالى خالق القوى غير محتاج إلى شركة غيره، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك. وقوله (تركتُه وشركه) أي تركتُ المشرك والشرك أيضا. ومعنى الحديث أن كل عمل يُشْرَك فيه بالله غيره فإنه لا يقبل الله منه شيئا لقوله: (تركته وشركه)". وقال الصنعاني في "التَّنوير شَرْح الجامع الصَّغِير": "(أشرك فيه) معي. (غيري) بالرياء ونحوه (تركته وشركه) قال القاضي عِياض: المراد هنا العمل والواو بمعنى مع، والحديث تحذير مِنَ الرياء وإخبار بأنه شرك".
وقال النووي في "شرح صحيح مسلم": " قوله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَنْ عمل عملا أشرك فيه غيري تركتُه وشركه) ومعناه أنا غنى عن المشاركة وغيرها فمن عمل شيئا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير، والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم به". وفي "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد": "قوله: "(أنا أغنى الشركاء عن الشرك) لما كان المرائي قاصدًا بعمله الله تعالى وغيره، كان قد جعل الله تعالى شريكًا، فإذا كان كذلك، فالله تعالى هو الغني على الإطلاق، والشركاء بل جميع الخلق فقراء إليه بكل اعتبار، فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جُعِل له فيه شريك، فإن كماله تبارك وتعالى وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك ولا يلزم من اسم التفضيل إثبات غنى للشركاء، فقد تقع المفاضلة بين الشيئين وإنْ كان أحدهما لا فضل فيه كقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}(النمل:59)".
وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين": "العمل الصالح ما بُني على أمرين: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فالعمل الذي ليس بخالص ليس بصالح، لو قام الإنسان يصلي ولكنه يرائي الناس بصلاته، فإن عمله لا يُقْبَل حتى لو أتى بشروط الصلاة وأركانها وواجباتها وسننها وطمأنينتها، وأصلحها إصلاحاً تاماً في الظاهر، لكنها لا تُقبل منه، لأنها خالطها الشرك، والذي يشرك بالله معه غيره لا يقبل الله عمله، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك) يعني إذا أحد شاركني، فأنا غني عن شركه، (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)".
مِن فوائد الحديث:
1 ـ التحذير مِن الشرك بجميع أشكاله، وأنه مانعٌ من قبول العمل.. ووجوب إخلاص العمل لله تعالى من جميع شوائب الشرك والتي منها الرياء.. وأن الله تعالى لا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا له سبحانه
2 ـ إثبات صفة الغِنى المُطْلَق لله تعالى وذلك من قوله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك). ومن أسماء الله تعالى "الغني" قال الله تعالى: {وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}(فاطر:15). قال ابن القيم في "النونية":
وَهُوَ الغَنِيُّ بِذَاتِهِ فَغِنَاهُ ذَا ... تِيٌّ لَهُ كَالجُود وَالإحْسَانِ
قال الشيخ الهرَّاس في شرحه للنونية: "ومن أسمائه الحسنى (الغني)، فله سبحانه الغنى التام المطلق من كل وجه".
3 ـ إثبات صفة "الكلام" لله عز وجل، وذلك مِن قوله صلى الله عليه وسلم: (قال اللَّهُ تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء). وإثبات صفة "التَرْك" لله تعالى من قوله صلى الله عليه وسلم: (تَرَكْتُه وشِرْكَه). ومِن عقيدة أهل السُنة الإيمان بهاتين الصفتين لله تعالى كما وردتا، وعدم الخوض في الكيفية، والكلام في صفة "الكلام" وصفة "الترك" كالكلام في بقية صفات الله عز وجل.. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "قَوْلُ الْجُمْهور وَأَهْلِ الْحَدِيث وأَئِمَّتِهِم: إنَّ اللَّه تعالى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاء وأَنَّه يَتَكَلَّم بِصَوْت كما جاءت به الْآثَار". وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح الواسطية": "الله يتكلم بكلام حقيقي، متى شاء وكيف شاء، بما شاء، بحرف وصوت، لا يماثل أصوات المخلوقين". وقال ابنُ عَرفة في تفسيره: "قال الآمِديُّ: مَنَع المعتَزِلة (طائفة مبتدعة منحرفة نفت صفات الله، وقدمت المعقول على المنقول في فهم العقيدة فضلوا وأضلوا) إطلاق صِفة التَّرك على الله تعالى، وأجازها أهلُ السُّنَّة بقوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}(البقرة:17)". وقال الشيخ ابن عثيمين: "تَرْكُه سبحانه للشَّيءِ صفة مِن صِفاته الفِعليَّة الواقعة بمشيئتِه التَّابعة لحكمتِه، قال الله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}(البقرة:17).. والنُّصوص في ثُبوت التَّرك وغيرِه مِن أفعاله المُتعلِّقة بمشيئته كثيرة معلومة، وهي دالَّة على كمالِ قُدرتِه وسُلطانِه، وقيام هذه الأفعال به سُبحانه لا يُماثِل قيامها بالمخلوقين، وإنْ شارَكوه في أصلِ المعنى، كما هو معلومٌ عند أهل السُّنَّة"..
فأهل السنة يثبتون صفات الله عز وجل التي جاءت في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تمثيل ولا تكييف، ويفوضون كيفيتها إلى الله عز وجل، ويعتقدون اعتقادا جازما بأن ذلك الوصف بالغ مِنْ غايات الكمال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). قال السعدي: "{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأنَّ أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفات كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوْجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارِك، فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه.. وهذه الآية ونحوها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد على المُشَبِّهَة في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى المُعَطِّلة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}". وقال الإمام الأصبهاني في "الحُجَّة في بيان المَحجة وشرح عقيدة أهل السنة": "الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات وإنما أثبتناها لأن التوقيف ورد بها، وعلى هذا مضى السلف". وقال: "وليس في إثبات الصفات ما يُفضي إلى التشبيه، كما أنه ليس في إثبات الذات ما يفضي إلى التشبيه، وفي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} دليل على أنه ليس كذاته ذات، ولا كصفاته صفات". وقال ابن تيمية: "فمذهب السلف ـ رضوان الله عليهم ـ إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات".
مَن لم يخلِصْ لله عز وجل لا يَقبَل الله منه عمله وطاعته وعبادته، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ}(البينة:5). قال السعدي: "{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجْه الله". ومع أن الواقع في الشرك الأصغر ـ والذي منه الرياء ـ لا يخْرِج مِنَ الإسلام، ولا يخلد في النار، إلا أنه ينبغي الحذر منه كل الحذر، والبعد عنه كل البعد، وقد يتهاون بعض الناس بهذا النوع لتسميته شركًا أصغر، وهو إنما سُمِّيَ أصغر بالنسبة للشرك الأكبر. قال الشيخ حافظ الحكمي: "والنوع الثاني مِنْ نوعي الشرك: شرك أصغر، لا يُخرج مِنَ الملة، ولكنه يُنقص ثواب العمل، وقد يحبطه إذا زاد وغلب، وهو الرياء اليسير في تحسين العمل، فسَّره به أي: فسَّر الشرك الأصغر بالرياء خاتم الأنبياء مُحمد صلى الله عليه وسلم". وعن محمود بن لَبيد الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عليكُمُ الشِّركُ الأصغرُ: الرِّياء، يقول اللهُ يوم القيامة إذا جَزَى النَّاسَ بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجِدون عِندَهم جزاء؟!) رواه أحمد.. ومِنْ ثم فالواجب على المسلم أن يحذر كل الحذر مِنَ الشرك بالله عز وجل صغيره وكبيره، وأن يستعين بالله تعالى على الإخلاص، والتعوذ به عز وجل مِنَ الرياء..
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
شرح أربعين حديثا في العقيدة