الكاتب المثقف صياد ماهر، يصطاد الفكرة، وتروق له الكلمة، ويبادره الخاطر، فيعمد إلى قلمه، ويسارع إلى دفتره، فيسجل الخاطرة ويُدَوِّن الفكرة، ويُقيِّد الكلمة، ثم تتكاثر هذه الخاطرة، وتنبت الفكرة؛ فتصير مقالة، أو حتى كتاباً.
والكاتب عليه رقيب يحصي أنفاسه، ويرصد هفواته، ويضخم سقطاته، ويجتهد في إظهار تناقضاته، هذا الرقيب هو القارئ الذي تُرسل له ما كتبت، وتعطيه قطف زهرك، وثمرة فكرك، وعصارة ذهنك، فإذا به يرصد مقالتك كلمة كلمة، وسطراً سطراً، حتى يُخرج من بين ذلك، ما يزلزل به عرشك، ويهشم به صورتك.
والكاتب للأسف لا يستطيع أن يذكُر كل ما كتَبه، وخاصةً إذا كان كاتبًا منتظمًا في سلك الكتابة اليومية، يحمل هم أمته، ويساهم في بناء جيله.
لا عاصم للكاتب ألا يُناقِض نفسه إلا أن يكون صادقًا مع نفسه، منطلقاً من ثقافته، مستمسكاً بمشروع أمته التي ينتمي إليها، ساعتها سيجد نفسه منسجماً مع مقالته طول خطه، لأنه لا يتحرك بالأهواء، ولا تغريه الوظائف، والمال، وإنما هو منخرط في مشروع إصلاحي بين القسمات، واضح المعالم.
يقول الكاتب الكبير ثروت أباظة: "...والكاتب إنسانٌ قسَم الله له أن يكون مرسومُ تَعيينِه صادرًا من السماء، وهو مرسوم من مادتَين؛ المادة الأولى صادرة إلى الكاتب كن كاتبًا فيكون، والمادة الثانية للقُراء، اقرءوا لهذا الكاتب فيقرءون، ولا يكون الكاتب كاتبًا إلا إذا اكتمل المرسوم بمادته الثانية تلك؛ فليس هناك كاتبٌ بلا قُراء".
إذن أن تكون كاتباً فهذا قدرك، فعليك أن تحسن عملك وتجود بضاعتك، وأن يكون قلمك للخير وعن الخير يدافع.
الكتابة مسئولية، وهي ولاية من غشها، فقد غش أمته، ومن جعل قلمه، أداة للمفسدين، فقد أهلك نفسه، وقطع وشائج الاتصال بمجتمعه، فالمجتمع أمة والأمة لن تنساق وراء ضالة أبداً، وإن خُدعت فسيكون ذلك لأمد قصير، وستتكشف الحقائق، ويظهر الحق، وفي الحديث النبوي:(ما أسرَّ عبدٌ سَرِيرَةً إلا ألبسهُ اللهُ رداءها، إن خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فشرٌّ)رواه الطبراني.
إن الأمة تنفي خبثها، ولن تنساق وراء الناعقين، والمتفسخين أبداً، قد يجدون موطأ في الإعلام، وزخماً يوهمهم بأنهم من قادة الرأي، ولكن سرعان ما يتبخر ذلك، لأن العاقبة للحق وأهله [ فأما الزبد فيذهب جفاء وما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض](سورة الرعد).
كل كاتب يحب أن يخلد اسمه، وأن يكون له لسان صدق بين الناس، وطريق ذلك أن تسخر قلمك لنشر الفضيلة، وأن تكون رائداً في التغيير للأفضل، ولما فيه رشاد الناس، وسداد أمرهم، وإياك أن يكون قلمك مأجوراً، أو منحازاً لدعاة الميوعة؛ وتوجيه المجمع لمستنقعات الآثام، وبؤر الغواية.
إن الأمة اليوم تعيش أحلك فتراتها، وهي في معركة تتقدمها الأقلام، فهناك أقلام سلبت هويتها، وفقدت بوصلتها، وأصبحت همها، نشر الخنا والدفاع عنه الضلال وكأن القرآن يعنيهم تماماً: [ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون](سورة النور).
الكيس والعاقل من الكتاب يُصوب نحن إصلاح مجتمعه، ويسطر كلمته مدركاً أنها مسئولية ألقيت على عاتقه فيقوم بها حق القيام، ويوفيها قدرها من الإجادة، والتفنن، و يلحظ أن تكون الكلمة متسقة مع العقيدة والدين والأخلاق؛ حتى تكون كلمتُه نورَ الحق في جائح الظُّلم، وفي جوائح الليالي الداكنة السوداء.
يقول مؤلف كتاب: (الزمن الممزق) وهو يتحدث عن الكتاب ومسئوليته: "لأن الله حين منحه موهبة الكتابة أخذ عليه عهدًا غير مكتوبٍ أن يكون شريفًا، لا يخادع الناس، ولا يقول إلا ما يؤمن به، ولا يُفشي إلا الخير، ولا يدعو إلا لما هو الأسمى والأرفع من قيم الحياة، لقد وهب الله للكاتب قبسةً من نوره، وما كان لقبسةٍ من نور الله أن تكون خداعًا، أو غشًّا أو كذبًا، أو دعوة للسفول، أو اعتداءً على الحق، أو اعتسافًا لكرامة الإنسان، فإذا خان الكاتب العهد سقط عنه اللقَب، وأصبح حفنةً من تراب الحياة، ترابُ الموت بالنسبة إليها أمل، وأي أمل".
إذن ليعلم الكاتب أنه مفوض من أمته، ليُعبر عن همومها، ويُدافع عن حقوقها، وينشر تراثها، وبالتالي، هو في تحد دائم، وتحت مراقبة لصيقة، فليكن بقدر التحدي، لينهض بدور الناصح والرائد الذي لا يكذب قومه، ولا يتقاعس عن مهمته، يشقى من أجل بلده، ويتعب سعياً لحلحلة مشاكل جيله، ويكن عيناً لمجتمعه، يرشد للإصلاح ويدعو للفضائل، سلاحه العلم، ومواكبة التطور، الكتاب لا يغادر يده، ويكون له اطلاع على دائرة المعارف بالعموم، فله من كل فن نصيب، وله من كل بستان زهر وقطاف.
وأهم من ذلك حياة الضمير، ومراقبة السميع البصير.