الآداب مرتبطة بالأمم، ولا يمكن أن يكون الإنسان أديباً منسوباً لأمة؛ ومشربه الأساسي من ثقافة غيره، وتربى على أفكار مناهضة لأمته، ناهيك أن يكون متبنياً لثقافة أخرى ويريد زرعها وسط مجتمعه وأمته، الأديب الحق ينطلق من ثقافته الأصلية، ويكون جزءً من نسيج مجتمعه، وهذا لا يمنع أن يكون واسع الاطلاع على الثقافات الأخرى منفتحاً على المعارف أينما كانت، ولكنه وطن نفسه، واعتز بهويته، وانطلق من أصالة مجتمعه، فيكون بعد ذلك احتكاكه بالثقافات الأخرى زاداً له ليهذب ما عنده، وتجويد بضاعته مساهمة منه في تحصين مجتمعه، ودعماً لوجود أمته.
وإن المرء ليعجب أن يرى اليوم ثلة من الناس تدعي أنها في مصاف الأدباء العرب، هي غريبة على الأمة العربية، نعم غريبة اللسان، وغريبة الهوية، تتدعي أنها أقلام عربية، وهي لا تكاد تبين بلسان العرب، مستعجمة في الحديث وطرق التفكير، ومع ذلك تتصدر المشهد.
ثلة تدعي الأدب العربي ولم تقف يوماً على" أدب الكاتب" لابن قتيبة، ولا قرأت "الكامل" للمُبَرِّد، ولم تُكلف نفسها الاطلاع على "البيان والتبيين" للجاحظ، ولم تسمع بـ"النوادر" لأبي علي القَالِي البغدادي، وتريد بعد ذلك أن تحمل راية الأدب العربي؟!!.
هذه الدواوين الأربعة التي قال عنها ابن خلدون: "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن، وأركانه أربعة دواوين: وهي: ....؛ وما سوى هذه الأربعة فتَبَعٌ لها وفروع عنها".
يقول الرافعي عن دواوين الأدب الكبيرة هذه: "هذه المؤلَّفات إنما وُضعت لتكون أدبًا، لا من معنى أدب الفكر وفنه وجماله وفلسفته، بل من معنى أدب النفس وتثقيفها وتربيتها وإقامتها، فهي كتبُ تربية لغوية قائمة على أصول مُحكَمة في هذا الباب، حتى ما يقرؤها أعجمي إلا خرج منها عربيًّا أو في هوى العربية والميل إليها؛ ومن أجل ذلك بُنيت على أوضاع تجعل القارئ المتبصِّر كأنما يُصاحب من الكتاب أعرابيًّا فصيحًا يسأله فيجيبه، ويستهديه فيرشده؛ ويُخرِّجه الكتاب تصفُّحًا وقراءة كما تُخرِّجه البادية سماعًا وتلقينًا، والقارئ في كل ذلك مستدرَج إلى التعريب في مَدْرَجةٍ مَدْرَجةٍ من هوى النفس ومحبتها، فتصنع به تلك الفصول فيما دُبِّرت له مثلما تصنع كتب التربية في تكوين الخُلُق بالأساليب التي أُدِيرت عليها والشواهد التي وُضعت لها والمعالم النفسية التي فُصِّلت فيها".
إن أدعياء الأدب الذين نتكلم عنهم ما عرفوا شيئاً عن تاريخ الآداب العربية، وما درسوا قواعد النحو، ولا اطلعوا على مميزات البلاغة العربية، ولا فقهوا كيفية تصريف الكلمة العربية، بل دون ذلك ما سمعوا بالأصمعي، ولا قرؤوا عن أبي عمرو البصري، ولا حفظوا معلقات الجاهليين، ولا استمتعوا نقائض جرير والفرزدق، ولا درسوا رسائل عبد الحميد الكاتب، ولا اعتنوا بكتب ياقوت الحموي.
لا يستقيم في آدابنا العربية ولا يٌعَدُّ من آلاتنا الثقافية، أدب المباشرة والوقاحة.
بل إن من أهم ما يميز آدابنا أنها تراعي الأخلاق، وتتبنى المثل السوية، أدبنا العربي يبتعد عن الإسفاف، ويأنف عن الخنا.
أدبنا العربي إذا تحدث عن المرأة يشبب بها بطرق محترمة، ويرفع من مكانتها، ويحدثك عن لَحْظِها، ونطقها، وخفرها ودلالها، ولا يجاوز ذلك إلا الشناعة والأفعال الحسية، يراعي الذمام والجيرة والمكارم كما قال الشاعر:
وأغض الطرف ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها.
أدبنا العربي لا يدعو للمنكرات، ولا إلى الاستكانة، والضعف؛ إنما يُصوّب نحو الرقي ومكارم الأخلاق والإقدام، واقتحام الصعاب، والبعد عن مظان التهم، والترفع عن الصغائر.
الأدب العربي يدعو للفضائل من كرم فياض، وبأس يحمي الذمار، ورعاية للعهود، وإنفاذ للوعود.
لقد ابتُلِيَ أكثرُ كُتَّاب التغريب؛ ممن يسمون أنفسهم بالأدباء بالانحراف عن الأدب العربي والعصبية عليه، ومنهم من تحسبه قد رُمِي في عقله لهَوَسِه وحماقته، ومنهم من كأنه في حِقْده سُلِخ قلبه، ومنهم المقلِّد لا يدري أعلى قصد هو أم جور، ومنهم الحائر يذهب في مذهب ويجيء من مذهب ولا يتجه لقصد، ومنهم من هو منهم وكفى .
والواقع أنهم لا يقدمون أدبًا كما يفهم من المعنى الفلسفي لهذه الكلمة، بل هو أبعد الأشياء عن هذا المعنى؛ فهم بدعوى الواقعية، ينشرون مخازي ما كان لها أن تنشر، وسقطات ما كان لها أن تذكر.
ويؤكدون أن هذا أدب الواقع، والحق أنهم أصبحوا معاول هدم، يبرون أقلامهم، لنشر الرذائل ومحاربة القيم، والمكارم التي شيدت عليها مجتمعات العرب.
فمتى تكف هذه الأقلام المأجورة؟ والتي ما هي إلا صدى لثقافات أخرى؛ قد لا تكون بالضرورة متوافقة مع ثقافتنا العربية.
واجب الجيل الجديد اليوم أن يتقدم ميدان الثقافة مزوداً بقيم الأمة، ومسلحاً بالعلم والإيمان ليخلص الساحة من رجس الأدب المنحدر.